تبدو زيارة الرئيس التركي الأخيرة إلى الخليج ومصر محطةً جديدة في مسار السياسة الخارجية لأنقرة، التي استطاعت خلال العقدين الماضيين أن تجمع بين براغماتية المصالح ورمزية التاريخ، في محاولة لإعادة تموضعها في المشهدين العربي والدولي بعد سنوات من التوتر والعزلة.
هذه الزيارة لم تكن مجرد بروتوكول سياسي أو جولة اقتصادية عابرة، بل جاءت لتكرّس نهج “العثمانيين الجدد” الذين يقرأون الجغرافيا من منظور التاريخ، ويستثمرون في التناقضات بين الشرق والغرب، وبين العرب والخليج، في إطار لعبة توازنات دقيقة أعادت لتركيا حضورها كلاعب لا يمكن تجاهله.
منذ سقوط “الربيع العربي”، أدركت أنقرة أن سياستها القائمة على التوسع الأيديولوجي لم تعد تجدي نفعًا، وأن مرحلة “الخطاب العاطفي” باسم الأمة الإسلامية قد انتهت، لتحلّ مكانها براغماتية جديدة قوامها المصالح الاقتصادية والسياسية. فالتحولات في المنطقة — من الحرب في غزة، إلى التقارب السعودي الإيراني، إلى عودة سوريا إلى الجامعة العربية — فرضت على تركيا أن تتعامل بواقعية جديدة، توازن بين إرثها التاريخي ومصالحها الحيوية.
لقد كانت بوابة الخليج مفتاح العودة لأنقرة. فبعد أعوام من التوتر مع دول خليجية بسبب ملفات تتعلق بدعم جماعات الإسلام السياسي، جاءت المصالحة التركية الخليجية لتفتح صفحة جديدة من التعاون الاقتصادي والاستثماري. مليارات الدولارات من الاستثمارات المتبادلة، ومشاريع الطاقة، والاتفاقات الدفاعية، كلها تعكس رغبة متبادلة في تجاوز الماضي وبناء علاقة قائمة على المنفعة المشتركة.
فأنقرة تدرك أن الخليج هو شريانها المالي في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، ودول الخليج من جانبها ترى في تركيا قوة إقليمية يمكن المراهنة عليها لتحقيق توازن في مواجهة تمدد طهران أو تقلبات واشنطن.
أما في القاهرة، فقد كانت الزيارة أكثر رمزية من أي وقت مضى. فالعلاقات بين مصر وتركيا ظلت لسنوات رهينة الملفات السياسية المتشابكة، لكن براغماتية اللحظة فرضت تجاوز الخلافات.
فتركيا بحاجة إلى مصر كقوة مركزية في الإقليم، ومصر تدرك أن تجاهل الدور التركي في شرق المتوسط وملف الغاز لم يعد ممكنًا. ومن هنا، جاءت اللقاءات لتؤكد أن ما يجمع البلدين أكبر مما فرّق بينهما، وأن الجغرافيا أقوى من الأيديولوجيا.
من منظور جيوسياسي، تحاول أنقرة أن تملأ الفراغ الذي خلفه تراجع النفوذ الأمريكي وتآكل الدور الأوروبي. فهي تتقاطع مع روسيا في ملفات عدة، وتتنافس معها في أخرى، لكنها لا تنفصل عنها. كما تحتفظ بعلاقات متوازنة مع الناتو رغم خلافاتها العميقة، ما يجعلها أقرب إلى “اللاعب المزدوج” الذي يستفيد من جميع الأطراف دون أن ينحاز كليًا إلى أحدها.
هذه السياسة البراغماتية جعلت تركيا تبدو أحيانًا كمن يرقص على حبال متعددة، لكنها في الواقع تمارس نوعًا من الواقعية الذكية التي تمكّنها من البقاء مؤثرة رغم عواصف المنطقة.
في المقابل، يدرك العرب — خصوصًا في الخليج ومصر — أن تركيا الجديدة لم تعد تلك التي تحلم بإحياء السلطنة أو استعادة النفوذ عبر الخطاب الديني، بل باتت تتعامل وفق لغة المصالح الباردة.
فالتقارب مع أنقرة لم يعد يُقرأ في إطار "الحنين العثماني"، بل ضمن رؤية اقتصادية واستراتيجية مشتركة تسعى لتأمين خطوط التجارة والطاقة في منطقة تتغير موازينها بسرعة.
إن ما يميز السياسة التركية اليوم هو قدرتها على التحول السريع بين الأدوار: من وسيط إلى شريك، ومن خصم إلى حليف، ومن داعم للثورات إلى متصالح مع الأنظمة التي واجهتها بالأمس.
هذا التحول لا يعكس تناقضًا بقدر ما يعبر عن قراءة دقيقة لتبدلات المشهد الدولي. فالعثمانيون الجدد لا يسعون إلى الغزو، بل إلى النفوذ عبر الاقتصاد والدبلوماسية الذكية، وفتح الأسواق، وتوسيع شبكات التأثير.
اللافت أن أنقرة تعود اليوم إلى المسرح العربي ليس عبر القوة العسكرية فحسب، بل عبر “قوة ناعمة” تعتمد على الاستثمار والوساطة والعمق الثقافي. فهي حاضرة في ليبيا وسوريا وقطر، وفي شرق المتوسط، وفي مشاريع البنية التحتية بالعراق والسودان.
وهذا التمدد لا يعني بالضرورة نزعة هيمنة، بقدر ما يعكس طموح دولة تريد أن تستعيد موقعها الطبيعي بين الشرق والغرب.
لقد نجح أردوغان — رغم الانتقادات — في إعادة صياغة الدور التركي بما يخدم رؤية قومية تمتزج فيها المصلحة بالرمزية، والسياسة بالاقتصاد، والدين بالتاريخ.
فالعثمانية الجديدة ليست مشروعًا توسعيًا كما يراها البعض، بل هي استراتيجية نفوذ تستثمر في التاريخ من أجل المستقبل، وتُعيد تعريف العلاقة بين أنقرة والعواصم العربية على أسس جديدة.
إن قراءة الزيارة الأخيرة تكشف أن تركيا اليوم تسعى لتكون “جسرًا” لا “جدارًا” بين الشرق والغرب، وأن براغماتيتها الجديدة ليست تنازلًا عن الثوابت، بل استثمارٌ في الممكن.
فهي دولة تعرف كيف تقرأ الواقع، وتدرك أن زمن الأيديولوجيا قد مضى، وأن لغة المصالح وحدها هي التي تصنع الحضور والنفوذ.
ختامًا، يمكن القول إن “العثمانيين الجدد” عادوا، لكنهم عادوا بوجهٍ مختلف: بوجه الدولة لا الإمبراطورية، وبمنطق المصالح لا الفتوحات.
وبين الشرق والغرب، بين العرب والخليج، تواصل أنقرة نسج خيوط نفوذها بحذر وذكاء، في عالم يتبدل كل يوم، حيث لا مكان للضعفاء ولا للمثاليين، بل فقط لأولئك الذين يجيدون فن اللعب على حافة التناقضات دون أن يسقطوا فيها.
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
0 تعليق