«الممر الأسو١د».. خريطة الإرهاب الجديدة في الساحل الإفريقي .. بوابة الفجر سبورت

البوابة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

منطقة الساحل الإفريقي لم تعد مجرد هامش جغرافي على خريطة القارة السمراء، بل أصبحت اليوم قلب المعادلة الأمنية في إفريقيا والعالم.

من مالي إلى بوركينا فاسو وصولًا إلى النيجر، يمتد حزام النار الذي بات يُعرف في التحليلات الغربية باسم «الممر الأسود»، الشريط المظلم الذي يعيد رسم حدود الإرهاب والنفوذ الدولي في القارة.

خلال أقل من عقد، تحولت هذه الدول الثلاث من شركاء للغرب في مكافحة الإرهاب إلى ساحات مفتوحة للجماعات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وذراعه الأقوى في المنطقة، جماعة نصرة الإسلام والمسلمين.

هذا التحول لم يأتِ فجأة، بل كان نتاج سلسلة من الانقلابات وتغير سياسات السلطة، والانسحابات الدولية، والانقسامات الداخلية التي تركت فراغًا سياسيًا وأمنيًا سرعان ما ملأته التنظيمات المسلحة.

فمنذ أن تراجعت خُطى القوات الفرنسية وقوات الأمم المتحدة عن مالي، تفتحت شهية التنظيمات المتطرفة لملء الفراغ، في لحظة بدت فيها الدولة المركزية عاجزة عن فرض هيبتها، والجيوش الوطنية منهكة من الحروب الطويلة بلا نهاية واضحة.

اليوم، تتشكل خارطة الساحل من جديد، من شمال مالي إلى تخوم بوركينا فاسو والنيجر، حيث تتشكل أمام أعين العالم ملامح «إمارة إرهاب عابرة للحدود»، تقودها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، الفرع الأقوى لتنظيم القاعدة في إفريقيا.

تقول صحيفة «لوموند الفرنسية»، إن انسحاب القوات الدولية من مالي أطلق العنان لموجة غير مسبوقة من الهجمات، فيما تؤكد «BBC Africa»، أن الجماعات المسلحة باتت تتحرك بحرية غير مسبوقة بين المناطق الحدودية الثلاث، مستفيدة من هشاشة الدولة واتساع رقعة الصحراء وانهيار منظومات الاستخبارات المحلية.

أما «واشنطن بوست»، فتصف المشهد بأنه «الانزلاق الصامت نحو الهاوية»، محذرةً من أن المنطقة التي وُصفت يومًا بأنها الحزام الواقي لإفريقيا الغربية أصبحت اليوم «خاصرتها الرخوة» أمام تمدد الإرهاب.

على الأرض، تتناوب الرايات السوداء على السيطرة في مناطق بأكملها، تارة باسم القاعدة عبر «نصرة الإسلام والمسلمين»، وتارة باسم «داعش في الصحراء الكبرى»، وبينهما ميليشيات محلية تدين بالولاء لمن يدفع أو يوفر السلاح.

وبحسب تقارير «Africa Intelligence وCrisis Group»، فقد تضاعف عدد الهجمات الإرهابية في بوركينا فاسو وحدها أكثر من خمس مرات خلال ثلاث سنوات، بينما فقدت الحكومة المركزية السيطرة على نحو 45% من أراضيها، أغلبها في الشمال والشرق.

من مالي.. البداية

في قلب الصحراء الكبرى، بدأت الشرارة الأولى، فمنذ أن سيطرت الجماعات الجهادية على شمال مالي عام 2012، والبلاد تعيش حالة تفكك مزمن رغم التدخلات الدولية المتكررة.

لم يكن سقوط مالي حدثًا مفاجئًا بقدر ما كان تتويجًا لمسار طويل من الانهاك السياسي والعسكري، فالدولة التي كانت تُعد حتى عام 2012 واحدة من أكثر الأنظمة استقرارًا في غرب إفريقيا، تحوّلت خلال عقد واحد إلى مسرح مفتوح للحروب بالوكالة، تتناوب على السيطرة فيه قوات أممية ومرتزقة روس وجماعات جهادية محلية، في خليطٍ شديد التعقيد.

تؤكد صحيفة «لوموند»، أن اللحظة الفارقة جاءت مع انسحاب بعثة «مينوسما» الأممية منتصف عام 2024، حيث انهارت مواقع الجيش المالي في الشمال خلال أسابيع، تاركة المدن الكبرى في قبضة جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، التي ملأت الفراغ بسرعة مدهشة.

وتنقل «Africa Intelligence»، عن مصادر ميدانية أن مقاتلي التنظيم سيطروا على الطرق الحيوية بين غاو وميناكا وتمبكتو، وفرضوا على السكان وأقاموا محاكم شرعية لإدارة النزاعات، في مشهد يذكّر بتجربة طالبان في كابول قبل سقوطها الأول.

واستطاعت أن تمليء جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» الفراغ فورًا، وسيطرت على مدن استراتيجية مثل «غاو» و«ميناكا» و«تمبكتو»، وأقامت نقاط تفتيش ومراكز جباية، وبدأت تطبيق ما تسميه«الشرع»، في إعادة إنتاج شبه كاملة لتجربة «طالبان» في أفغانستان، لكن بملامح إفريقية.

وهنا أُنهك الجيش المالي بعد سنوات من الصراع، وتراجعت سلطة الدولة إلى حدود العاصمة «باماكو»، بينما تمددت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في الشمال والوسط والشرق.

تشير تقارير «Crisis Group وThe Economist»، إلى أن أكثر من 60% من مساحة مالي باتت خارج السيطرة الحكومية، وقد فشلت العملية العسكرية الفرنسية «برخان»، التي بدأت عام 2014 في القضاء على الإرهاب، وانتهت بانسحاب باريس عام 2023 تحت ضغط الرفض الشعبي وصعود النزعة المعادية للغرب.

هذا الانسحاب مثّل نقطة تحول فارقة، إذ دخلت قوات  فاغنر الروسية لتحل محل الفرنسيين، لكنها سرعان ما انخرطت في معارك محدودة لم تغيّر شيئًا في واقع الانهيار، وفي هذه الفوضى، وجدت الجماعات الإرهابية فرصة لإعادة التموضع.

وبحسب «Reuters»، شهد عام 2024 وحده أكثر من 2500 هجوم إرهابي في مالي، معظمها في مناطق موبتي وغاو وتمبكتو، وتؤكد بيانات «ACLED»، أن التنظيمات لا تكتفي بالقتال، بل تدير شؤون المدنيين، وتفرض ضرائب، وتتحكم في طرق التجارة والذهب.

في «باماكو »، تحاول الحكومة بقيادة العقيد عاصمي غويتا ترويج رواية «التحرر والاستعمار»، لكنها تجد نفسها أمام واقع لا يمكن تجميله، الدولة تنهار من الأطراف، والولاء القبلي والعرقي عاد ليحل محل الانتماء الوطني.

تقول «Reuters»، إن القوات المالية تعتمد بشكل شبه كامل على دعم «فاجنر»، التي تقدم حماية للنظام أكثر مما تشارك فعليًا في معارك الميدان، بينما يحقق الجهاديون تقدمًا ملموسًا على الأرض، حيث تمكن التنظيم من تجنيد آلاف الشباب العاطلين عن العمل تحت شعارات «العدالة والمساواة».

تُظهر تقارير «Crisis Group»، أن الجماعة لا تعمل فقط بعقيدة دينية، بل بعقلية إدارة واقعية؛ فهي تعقد صفقات مع وجهاء القرى وتجار الطرق، وتفرض نظام «الضرائب مقابل الحماية»، وتقدم نفسها كبديل عن دولة غائبة.

في هذا السياق، تقول«The Conversation Africa»، إن التنظيم استطاع «تحويل الغضب الشعبي من الفساد والتمييز إلى ولاءٍ عقائدي مسلح»، وهو التحول الأخطر في المعادلة.

لم تكن حدود مالي الجغرافية كافية لكبح هذا التمدد، فخلال النصف الثاني من 2024، عبر مقاتلو التنظيم نحو بوركينا فاسو والنيجر، حيث استقبلتهم خلايا نائمة كانت قد أُعدت مسبقًا.

وتصف «BBC Africa»، هذه العملية بأنها «انتقال ناعم للنفوذ»، إذ لم يحدث عبر اجتياحات ضخمة، بل من خلال «تسلل تدريجي» وشراء ولاءات محلية، ما جعل الجماعة اليوم تمتلك شبكة إقليمية مترابطة لا تحتاج إلى مركز قيادة واحد.

وبحلول نهاية عام 2024، بات واضحًا أن مالي لم تعد فقط دولة منهارة، بل نقطة انطلاق لنموذج جديد من الحكم الجهادي، أكثر تنظيمًا وأقل فوضوية مما عرفته المنطقة سابقًا.

وتحذر «واشنطن بوست» من أن التنظيم تعلم من أخطاء داعش في العراق وسوريا، وبات أكثر حذرًا في إعلان الدولة، مفضلًا السيطرة التدريجية بدل المواجهة المباشرة مع المجتمع الدولي.

و اليوم، يتحدث محللون في «Africa Report» عن خريطة «ما بعد مالي»، التي تمتد من شمال بوركينا فاسو إلى تيلابيري في النيجر، حيث تتجمع أخطر خلايا القاعدة وداعش في مساحة شاسعة تفوق مساحة فرنسا نفسها.

وفي ظل انسحاب غربي متتابع، فالمشهد لا يحتاج سوى عامين آخرين ليحوّل الساحل إلى نسخة إفريقية من «الهلال الجهادي» الذي بدأ في أفغانستان ومرّ بسوريا والعراق.

وهكذا أصبحت مالي النموذج الأول لـ«دولة بلا سيادة»، حيث تتعايش السلطة الرسمية والسلطة الموازية على الأرض، وتتحول القرى إلى كيانات مغلقة يحكمها الخوف والولاء الإجباري.

بوركينا فاسو.. من العاصمة الي الأطراف المشتعلة

في الجنوب الغربي من مالي، تتكرر المأساة بصيغة أكثر تعقيدًا، فمنذ تغير النظام السياسي في بوركينا فاسو عام 2022، انهارت المنظومة الأمنية، وبدأت الجماعات المسلحة تتوسع في العمق الوطني بوتيرة غير مسبوقة.

ويصف تقرير «Le Monde Afrique» هذا التحول بأنه «الانهيار البطيء لدولة كاملة أمام أنظار العالم»، وتقول «BBC Africa»، إن الهجمات الإرهابية في بوركينا فاسو تضاعفت خمس مرات خلال ثلاث سنوات فقط، لتصبح البلاد اليوم البؤرة الأكثر دموية في الساحل.

وتؤكد «Crisis Group» أن ما يقرب من نصف مساحة البلاد (45%) بات خارج سيطرة الحكومة المركزية في العاصمة واغادوغو، حيث تنتشر الجماعات المسلحة في الشمال والشرق والغرب، وتتخذ من المناطق الحدودية مع مالي والنيجر قاعدة رئيسية لعملياتها.

أما «Le Monde» فتصف الوضع بأنه «سقوط بطيء لدولة تتآكل أطرافها»، إذ تُحاصر العاصمة من ثلاث جهات، وتعيش عشرات القرى في عزلة تاخمة بعد أن قطعت عنها الجماعات خطوط الإمداد والاتصال، وفي تقرير صادر عن «Reuters»، يُذكر أن عدد النازحين داخليًا تجاوز 2.3 مليون شخص، وهو من أعلى معدلات النزوح في العالم حاليًا.

تعمل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين هناك وفق استراتيجية «الاختراق المتدرج»، حيث تبني وجودها داخل القرى والمجتمعات القبلية عبر تقديم خدمات بديلة عن الدولة،  تأمين، وعدالة عرفية، ومساعدات غذائية، مقابل الولاء والطاعة.

أما تنظيم «داعش» في الصحراء الكبرى فيتركز في الشرق، حيث يسعى للسيطرة على الطرق الحيوية مع النيجر ومالي، وتتمتع جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» بوجود كثيف في شمال البلاد.

بينما تهيمن «داعش» في الصحراء الكبرى على شرقها كما ذكرنا، ولكن تدور بينهما معارك تنافس على النفوذ والموارد، لكنهما يشتركان في الهدف إسقاط الدولة وإقامة «إمارة الساحل الكبرى».

وتشير تقارير «Africa Intelligence» إلى أن التنظيمين بدآ منذ أواخر 2024 بتقسيم مناطق النفوذ ضمن اتفاق ميداني غير معلن، لتجنّب الاقتتال الداخلي والتركيز على مواجهة الجيش البوركيني.

في المقابل، تحاول الحكومة البوركينية بقيادة الكابتن إبراهيم تراوري رفع شعار «المقاومة الشعبية»، وقد جنّدت أكثر من 50 ألف متطوع مسلح ضمن ما يُعرف بـ«قوات الدفاع عن الوطن».

لكن «Reuters»، تشير إلى أن معظم هؤلاء يفتقرون للتدريب والتسليح الكافي، ما يجعلهم هدفًا سهلًا للهجمات الانتقامية، بل إن بعضهم انضم لاحقًا للجماعات المتشددة بعد أن تركهم النظام دون دعم أو رواتب.

وهنا يحذر تقرير «The Economist»، من أن انهيار بوركينا فاسو التام سيشكّل بوابة انتقال الإرهاب إلى غرب إفريقيا الساحلية، نحو ساحل العاج وغانا وتوغو وبنين، في أول تمدد من نوعه من الصحراء إلى الغابات المطيرة.

النيجر.. علي حافة السقوط

إذا كانت مالي سقطت، وبوركينا فاسو تنهار، فإن النيجر تقف الآن على حافة السقوط، من بين دول المثلث المشتعل (مالي – بوركينا فاسو – النيجر)، تُعد النيجر اليوم الحلقة الأخطر والأكثر حساسية جيوسياسيًا.

فهي ليست فقط بوابة الساحل إلى شمال إفريقيا، بل أيضًا خط الدفاع الأخير أمام تمدد الجماعات الإرهابية نحو البحر المتوسط، ومع ذلك، يعيش هذا البلد الفقير منذ انقلاب يوليو 2023 حالة فراغ أمني وسياسي جعلته في مرمى النيران من كل الاتجاهات.

تشير «The Economist» إلى أن النيجر كانت آخر حليف فعّال للغرب في حرب الساحل قبل أن يسقط الرئيس محمد بازوم، لتبدأ مرحلة جديدة من العزلة والانكشاف.

ومع طرد القوات الفرنسية وتجميد التعاون الاستخباراتي مع الولايات المتحدة، فتحت البلاد أبوابها أمام النفوذ الروسي عبر شركة «فاجنر» حاليًا «أفريكا كوربس»، التي دخلت تدريجيًا تحت شعار «دعم الأمن والاستقرار»، بينما توسعت الجماعات المسلحة في فراغ القوة.

وهنا؛ فقدت البلاد توازنها الاستراتيجي، ما أدي  إلى شلل مؤسسات الدولة وفتح الحدود أمام تسلل الجماعات المسلحة من مالي وبوركينا فاسو، تقول «The Washington Post» إن الانقلاب الذي وُلد باسم الأمن أنجب فوضى أكبر، إذ انسحبت فرنسا وجمّدت الولايات المتحدة تعاونها الاستخباراتي، تاركة فراغًا واسعًا.

وتشير «رويترز» إلى أن الفراغ السياسي في نيامي بات بيئة خصبة للتمدد الإرهابي، خاصةً مع انسحاب القوات الفرنسية والأوروبية، ما جعل المثلث الحدودي بين الدول الثلاث المنطقة الأخطر في القارة بأكملها.

تُظهر تقارير «Crisis Group» أن «نصرة الإسلام والمسلمين» و«داعش» في الصحراء الكبرى تمددا بسرعة في مناطق تيلابيري وتاهوا وميناكا، بينما شهد الشرق هجمات متزايدة من بوكو حرام على الحدود مع تشاد.

يقول تقرير «Reuters» الصادر في سبتمبر 2025 إن عدد الهجمات في النيجر تضاعف خلال عام واحد بنسبة 70%، مع مقتل أكثر من 1200 شخص في هجمات متفرقة، بينهم جنود ومدنيون، وفي الوقت نفسه، ارتفع عدد النازحين داخليًا إلى نحو 750 ألف نازح، معظمهم من المناطق الغربية التي شهدت تصاعدًا في نشاط داعش.

كما تصف «Le Monde Afrique» الوضع في النيجر بأنه تآكل للدولة من الأطراف نحو المركز، وتحذر من أن استمرار الانقسامات العرقية بين الطوارق والفولاني والذي سيقود البلاد إلى انهيار كامل خلال عامين إذا لم يُستعد التوازن السياسي.

الممر الأسود.. من الفوضى إلى إعادة التموضع

الفراغ الأمني وتدوير النفوذ

الفراغ الذي تركه انسحاب القوات الفرنسية لم يملأه الروس بعد، بل ملأته الجماعات الإرهابية، فالمنطقة الحدودية بين تيلابيري وميناكا أصبحت معبرًا حرًا بين مالي والنيجر، بينما انتقل جزء من المقاتلين من بوركينا فاسو إلى الجنوب الغربي للنيجر.

ويؤكد تقرير «BBC Monitoring»، أن الجماعات المسلحة باتت تستخدم هذه المنطقة كـ«مثلث آمن» لتبادل السلاح والمقاتلين والتمويل.

تُظهر بيانات«ACLED» أن أكثر من 60% من هجمات الساحل عام 2025 وقعت في الشريط الممتد بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، أي في مساحة لا تتجاوز 15% من إجمالي مساحة الإقليم.

وهذا ما تسميه الصحافة الغربية «الممر الأسود»، «corridor noir» الذي يُتوقع أن يكون محور الصراع القادم في إفريقيا، شريط يمتد من شمال شرق مالي مرورًا بغرب بوركينا فاسو حتى الحدود الجنوبية الغربية للنيجر، يمثل أخطر ممر إرهابي في العالم حاليًا.

هذا الممر، بحسب تقرير «International Crisis Group» (أكتوبر 2025)، لم يعد مجرد منطقة اضطراب أمني، بل أصبح نظامًا بديلًا للحكم تفرضه جماعات نصرة الإسلام والمسلمين وداعش في الصحراء الكبرى.

ففي القرى البعيدة والمناطق النائية، تنفّذ هذه الجماعات «عدالة محلية» بديلة، وتفرض الضرائب، وتنظم حركة الأسواق، وتمنع سرقة الماشية مقابل الولاء، في نموذج يشبه ما جرى في شمال مالي عام 2012 قبل إعلان «إمارة أزواد»، وهنا نأتي الي التحول من التمرد إلى الإدارة.

تقول «Le Monde Afrique» في تحقيقها الأخير، لم تعد الجماعات في الساحل مجرد متمردين، لقد أصبحت سلطة واقعية تمسك بمفاصل الحياة اليومية في مناطق شاسعة، وتتعامل مع السكان كدولة ظلّ كاملة الأركان.

هذا التحول في وظائف الإرهاب هو ما تسميه «The Guardian» بـ«إدارة الفوضى»، حيث تتحول الجماعات من طرف يضرب الدولة إلى طرف يملأ فراغها، ويشير تقرير «ACLED» إلى أن أكثر من 40% من سكان المناطق الحدودية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر يعيشون اليوم في مناطق خارجة تمامًا عن سيطرة الحكومات المركزية.

40f7262da0.jpg

تحت هذه الصورة القاتمة، تتقاطع التحليلات الدولية حول سؤال واحد: هل ما يجري في الساحل هو مجرد تصاعد للعنف، أم ولادة كيان إرهابي جديد يستعيد تجربة «دولة الخلافة»، في قلب إفريقيا؟.
فبحسب تقرير «International Crisis Group»، لم تعد هذه المناطق مجرد ساحات قتال، بل تحولت إلى نظام بديل للحكم تفرضه جماعات القاعدة و«داعش»، وفي تحليل «The Guardian»، يُوصف المشهد بأنه «تحول من التمرد إلى الإدارة»، إذ تدير الجماعات الأسواق وتفرض الضرائب وتوفر الأمن مقابل الخضوع.

وهنا نري توافق كلا التحليليين سواء ل «The Guardian اوCrisis Group»، يرجحون بقوة الاحتمال الثاني، إذ يروا أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين نجحت خلال السنوات الأخيرة في بناء «شبكة حكم ظل» تدير الموارد والأسواق المحلية، وتفرض الضرائب، وتدير المحاكم، ما يجعلها اليوم أكثر من مجرد تنظيم مسلح إنها «دولة ظل» تزداد قوة مع كل انسحاب جديد للقوات النظامية.

وهنا تُقدّر «Reuters» العائدات السنوية لهذه الجماعات من تجارة الذهب وحدها بأكثر من 150 مليون دولار، وهو ما يمكّنها من شراء السلاح واستقطاب المقاتلين.
أما «The Washington Post»، فتشير إلى أن الجماعات أعادت توزيع الأدوار بين القاعدة وداعش لتفادي الصدام المباشر؛ الأولى تسيطر على المناطق المأهولة، والثانية تنتشر في الممرات الصحراوية.

ويخلص تقرير «Africa Intelligence»، إلى أن ما يجري في الساحل ليس مجرد تمدد إرهابي، بل إعادة تموضع عالمي للقاعدة وداعش في قلب إفريقيا بعد تراجع نفوذهما في الشرق الأوسط.

فالموقع الجغرافي الفاصل بين البحر المتوسط والعمق الإفريقي، ووفرة الموارد الطبيعية، وضعف الحكومات كلها عناصر تجعل من «الممر الأسود» قاعدة انطلاق استراتيجية نحو شمال وغرب القارة، إذ أصبحت القارة قاعدة انطلاق جديدة للخلافة «اللامركزية».

كما تحذر «The Economist Intelligence Unit» من أن انهيار بوركينا فاسو الكامل أو النيجر سيحوّل الساحل إلى «أفغانستان إفريقية» تهدد شمال إفريقيا وغربها في آن واحد، بينما يفتح الباب أمام تمدد روسيا وإيران وإسرائيل في فراغ النفوذ الغربي.

وهنا نحذر من جديد كما حذرنا في برنامج «الضفة الأخرى» - الذي يعرض علي قناة «القاهرة الأخبارية» - منذ عامين حين تناولنا بوادر تمدد التنظيمات الارهابية، بعد الانسحاب الفرنسي من الساحل، مؤكدين أن انهيار مالي لن يكون سوى البداية لسلسلة سقوطات متتابعة، ما لم تُدرك القوى الإقليمية خطورة ما يجري.

واليوم، تبدو تلك التحذيرات أقرب إلى الواقع من أي وقت، فكما قولنا ما حدث في مالي لم يكن مجرد فشل سياسي؛ إنه تجربة عملية تُعلّم أن الفراغ المؤسسي يُولّد بدائلٍ قاسية مسلّحة، منظّمة، وقادرة على البقاء، فالنيجر وبوركينا فاسو يقفان اليوم عند منعطفٍ تاريخي، إما تعبئة جماعية محلية وإقليمية لاستعادة السيطرة، أو ترك الساحة لتتشكّل فيها «قوىً موازية» قد تكون أطول نفَسًا وأكثر تأثيرًا مما نتوقع.

لهذا السبب، اهتمام المؤسسات الإعلامية مثل جريدة «البوابة نيوز»،  أو برنامج «الضفة الأخري»،  بتوثيق، تفسير، والتحذير ليس رفاهية؛ بل هو واجب وطني وإقليمي يُنذر بخطرٍ ينبغي مواجهته الآن.

ونشدد اليوم بعد قراءة كل هذة التحليلات ووضع الصورة كاملة علي الطاولة  علي أن انهيار النيجر الكامل سيعني فتح الطريق أمام الجماعات الإرهابية نحو الجزائر وليبيا شمالًا، ونيجيريا غربًا، وتشاد شرقًا، أي نحو قلب القارة.

كما سيقوّض أي وجود غربي مستقبلي في الإقليم، ويمنح روسيا وإيران وإسرائيل مجال نفوذ مفتوح في منطقة لم تعد تخضع لأي توازن دولي، وهذا ما أكدناه  مرارا في برنامج الضفة الأخرى من أن ما يجري في النيجر وبوركينا فاسو ومالي ليس مجرد تحولات داخلية، بل «عملية إعادة رسم جديدة لخريطة النفوذ في إفريقيا، تُدار بأدوات الإرهاب بديلًا عن الجيوش».

فما يحدث في النيجر ليس مجرد أزمة محلية، بل تحول استراتيجي في الجغرافيا الأمنية الإفريقية، إذ باتت الجماعات تمتلك الآن قدرة على الحركة بين ثلاث دول دون قيود تُذكر، مدعومة بشبكات تهريب السلاح والذهب والوقود.

ما لا يُدركه المجتمع الدولي اليوم أن الجماعات الإرهابية لم تعد تحتاج إلى عاصمة تُعلن منها خلافتها؛ لقد أصبحت الخريطة كلها مسرحًا مفتوحًا للخلافة الميدانية الصامتة.

d2b3faed64.jpg

من الأكثر احتمالًا للسقوط الكامل أو الجزئي بعد مالي؟

بعد مالي، التي تُعَدّ حاليًا الأبرز في اختراقها من قبل الجماعة، فإن النيجر وبوركينا فاسو تظهران كأكثر الأهداف ترجيحًا. فالحالة في مالي بمثابة نموذج لما يمكن أن يحدث، ضعف مؤسسات الدولة، انسحاب الدعم الخارجي، توسّع الجماعة، وتحولها من مجرد فاعل إرهابي إلى فاعل يحكم أو يفرض قوانينه ــ وقد استُخدمت هذه الديناميكية في مالي كما تشير المصادر.

لذا، نرى أنّ النيجر، بُنيتها الحدودية المفتوحة، الانقلاب الأخير، تخلّي بعض القوى الدولية عنها، كل ذلك يجعلها الأكثر هشاشة.

بوركينا فاسو، بالرغم من بعض الجهود، لكنها تواجه تراكمًا كبيرًا من الهجمات، السيطرة على موارد الدولة مهدّدة، والجماعة تعمل بآليات «حكم فعلي» في أجزاء.

بالتالي، يمكن استشراف أن الدولة التي قد «تسقط» حقيقتًا تحت قبضة «JNIM» بعد مالي ربما تكون النيجر، مع احتمال كبير أن يسبقها أو يتزامن معها سقوط جزئي أو واسع النطاق في بوركينا فاسو.

لكن المؤشرات تميل أكثر نحو النيجر
الخلاصة الاستشرافية هي الأقرب على المدى القصير «1–3 سنوات»، النيجر 
لوجود عوامل بنيوية، حدود مفتوحة، تراجع شركاء أجانب، تركيز داخلي على بقاء النظام تجعلها هدفًا ذا فرص نجاحة مرتفعة للجماعة في إقامة «نفوذ فعلي» واسع.

الذي سيعاني انزلاقًا مستمرًا «3–5 سنوات»، بوركينا فاسوؤ فالسيناريو هنا لا يشترط سقوطًا فوريًا، بل «انقسام وظائف الدولة» وتراجع سلطة المركز في مناطق واسعة، ما يجعل الدولة معرضة لتشكّل رقعة نفوذٍ شبيهة بما حدث في أجزاء من مالي.

هذا السيناريو لا يعني سيطرة فورية للدولة على العاصمة أو انهيار الدولة من يومٍ لآخر، بل هو وصف لواقعٍ ميداني يتم فيه تقاسم السيطرة والادارة تدريجيًا بين أطراف مسلّحة ومؤسسات رسمية ضعيفة.

وهكذا تُختزل المأساة الإفريقية الجديدة في معادلة واحدة، دول ضعيفة، وجماعات قوية، وصمت دولي يراقب من بعيد، بينما تتحول الصحراء الكبرى إلى مختبر لإعادة إنتاج الإرهاب بثوب جديد.

6c11aa3440.jpg
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق