زهران ممداني.. من الجنوب إلى القمة - قراءة في لحظة التحوّل النيويوركية - الفجر سبورت

الأسبوع 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في مساءٍ خريفيٍّ كثيف الضوء والرمز، صعد اسم «زهران ممداني» على شاشة الانتخابات الكبرى كما يصعد نجمٌ من جهةٍ لم تكن محسوبة في خرائط القوة الأمريكية.

لم يكن صعوده حادثةً في تقويم السياسة، بل استعارةً مكتملةَ البناء:

أن يتوَّج ابنُ كمبالا، حفيدُ الجنوب العالمي، وسليلُ فكرةٍ مثقفةٍ من رحم الفكر الأفريقي والهندي، عمدةً لمدينةٍ تُختصر بها صورة العالم - نيويورك.

تاريخ المدينة لم يعرف مثيلاً لهذه المفارقة الشعرية: مهاجرٌ يحمل إرثًا من مزيج الثقافة والمظلومية، يقف الآن في صدارة الحكم لمدينةٍ طالما مثّلت مركز النظام الرأسمالي نفسه الذي هاجر منه الناس فرارًا وبحثًا عن العدالة.

رمزية الصعود:

من الأطراف إلى المركز

ليست الحكاية حكاية رجلٍ واحد، إنها سردية تحولٍ حضاريٍّ صامت.

زهران ممداني هو نصّ مفتوح على التاريخ:

يولد في كمبالا، يُهاجر إلى كيب تاون، ثم إلى الولايات المتحدة، كأنّ الجغرافيا نفسها كانت تُدرّبه على تعدد اللغات والوجوه والظلال.

تربّى على عتبة والدٍ هو المفكر الأفريقي المعروف محمود ممداني، الذي كتب في نقد الاستعمار المعرفي، وأمٍّ هي المخرجة ميرا ناير التي أنشأت مدرسة بصرية للحكايات المنسية.

من هنا خرج الشاب المسكون بالذاكرة والتمرد، ليحمل مشروعًا يرى السياسة امتدادًا للثقافة، والإدارة نوعًا من العدالة الشعرية.

المعادلة السياسية الجديدة:

من لغة الوعود إلى فلسفة الفعل

في رؤيته لمدينة نيويورك، لا يتعامل ممداني مع الملفات بوصفها “مشكلاتٍ إدارية”، بل باعتبارها “علاقات قوى”.

الإسكان عنده ليس أزمة طوبٍ وإيجار، بل سؤال عن حقّ السكن في وجه السوق.

والنقل العام ليس مجرد ميزانية، بل حقّ الوصول إلى الفضاء المشترك دون تمييز طبقي.

والضريبة ليست عقوبةً على الثراء، بل أداةً لإعادة توزيع الزمن نفسه على من حُرموا من فرصه.

في برنامجه السياسي، يمكن قراءة منهجية هندسية أخلاقية:

تجميد الإيجارات = كبح الجشع المؤسسي.

النقل المجاني = استعادة المدينة من رأس المال إلى المواطن.

رفع الحد الأدنى للأجور = تحويل الكرامة إلى بندٍ ماليٍّ محميٍّ في القانون.

إنها صياغة جديدة للسياسة:

ليست يساريةً فقط، بل إيكولوجية إنسانية، تُعيد التوازن بين الفرد والبنية، بين الحلم والممكن.

الاستراتيجية الكبرى:

كيف تُدار المدينة كفكرة؟

يدرك ممداني أن المدينة ليست أرقامًا في ميزانية، بل شبكة من العلاقات، ومسرح اختبارٍ لذكاء الدولة الحديثة.

ولذلك، فإن استراتيجيته تنقسم إلى ثلاث دوائر عمل:

1. العدالة الاجتماعية المُمَوَّلة:

تحويل الضرائب من أداة جباية إلى صندوق تضامن، يُعيد بناء الثقة بين الدولة والناس.

2. الحركة بوصفها حرية:

مشروع النقل المجاني ليس إجراءً اقتصادياً فحسب، بل فلسفة لتحرير المدينة من قيود الطبقة والمسافة.

3. الشفافية بوصفها رأسمالاً سياسياً:

بناء شرعية جديدة تقوم على إعلان البيانات وقياس النتائج، لا على فخامة الخطابات.

بهذه الدوائر الثلاث، يسعى إلى صناعة نموذج إداري يُوازي جاذبية المدينة نفسها، نموذجٍ يُقاس بالقدرة على إدارة التناقض لا على إخفائه.

أفق التأثير:

نيويورك كعاصمة عالمية للجيل القادم

التحليل الاستراتيجي لفوز ممداني يكشف عن تحوّل عميق في المزاج السياسي الأمريكي.

المدينة التي احتضنت وول ستريت، وابتدعت رموز النيوليبرالية، تختار الآن صوتًا قادمًا من الهامش الثقافي والسياسي.

هذا ليس حدثًا انتخابيًا فقط، بل انعطافة في البنية الأخلاقية للغرب الحضري.

الجيل الذي صوّت لممداني هو ذاته الجيل الذي لا يرى في المال مركزًا، بل في العدالة طاقةً جديدة لإعادة تعريف النجاح.

وهنا مكمن الخطر والفرصة معًا:

إن نجح، سيُفتح الباب أمام نسخةٍ جديدة من الديمقراطية الأمريكية — ديمقراطية العدالة لا النخبة، وإن فشل، ستُستخدم تجربته لتبرير عودة الحرس القديم بقناع “ الواقعية ”.

تحليل القوة والضعف:

من العاطفة إلى الإدارة

من منظور إستراتيجي بحت، يُواجه ممداني ثلاثة تحدّياتٍ بنيوية:

1. اقتصاد التمويل:

كيفية تحويل الشعارات إلى سياساتٍ قابلةٍ للاستدامة في ظلّ مديونيةٍ متفاقمة وبنيةٍ تحتية تحتاج تحديثاً.

2. توازن السلطة:

قدرة العمدة الجديد على التوفيق بين البيروقراطية التقليدية وشبكة المجتمع المدني التي أوصلته إلى الحكم.

3. إدارة الزمن السياسي:

فالمجتمعات المأزومة لا تنتظر نتائج بعيدة الأمد، وهي مستعدة للانقلاب العاطفي السريع إن لم تلمس التغيير في حياتها اليومية.

في المقابل، يمتلك الرجل ثلاث نقاط قوةٍ نوعية:

• شبكة تحالفات شبابية متجذّرة في الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية.

• كاريزما فكرية مدعومة بخطاب ثقافي أخلاقي غير تقليدي.

• وعي متقاطع العوالم، يُتيح له مخاطبة المدينة ككوزموس بشري لا كمقاطعات انتخابية.

المشهد الرمزي:

الشعر في قلب السياسة

حين وقف ممداني على منصة النصر، لم يكن الخطاب تقليدياً.

تحدّث عن «مدينةٍ تُحبّ أبناءها بالتساوي»، وعن «عدالةٍ تمشي على قدمي عامل الميترو».

كان يُعيد للسياسة ملامحها الأولى:

أن تكون فنًّا أخلاقيًّا قبل أن تكون إدارةً بيروقراطية.

ولعلّ هذا ما يجعل فوزه حدثاً شاعريّاً في زمنٍ مُتخَمٍ بالبرود الإداري.

المدينة التي غنّى لها لانغستون هيوز ذات يومٍ بأنها «مدينة الحلم المتعب»، تستعيد اليوم وجهاً إنسانيًا بفضل شابٍ ينتمي إلى الجنوب العالميّ، لكنه يحمل روح الشمال في التنظيم والعقلانية.

الخلاصة:

ما بعد الانتصار

في المقياس الحضاري، يُمكن القول إنّ فوز زهران ممداني ليس فوزًا لمرشّح، بل إعلانٌ عن ميلاد فلسفة سياسية جديدة:

فلسفةٌ تُعيد السياسة إلى أصلها، وتُعيد المدينة إلى مواطنيها.

إنه يختبر إمكانية أن تتحوّل العدالة من شعارٍ في الميادين إلى ميزانيةٍ في الدفاتر، ومن خطبةٍ إلى نظامٍ إداريٍّ متكامل.

سيحتاج الرجل إلى عقلٍ منضبط كإحصائي، وروحٍ متمرّدة كشاعر، وشبكةٍ ذكية كمهندس.

ففي النهاية، العمدة الذي جاء من الهامش، إن نجح في تنظيم المركز، سيُعيد تعريف السياسة نفسها:

ليس بوصفها صراعًا على الكراسي، بل فنًّا لإعادة ترتيب العالم وفق إيقاع القلب والعقل معًا.

اقرأ أيضاً
إله المقاهي.. حين يصنع الجهل آلهته في زمن «الفيسبوك»

المرأة السودانية وانتهاكات الدعم السريع

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق