في قلب رواية عمى الذاكرة تكمن الرحلة التي تتجاوز المكان والزمان، رحلة لا يحددها طريق ولا يقيّدها الجغرافيا، بل تحددها طبقات الألم والذاكرة الممزقة. الروائي اليمني حميد الرقيمي لم يكتب مجرد حكاية عن الحرب، ولا مجرد سرد للأماكن التي عبرها البطل من أجل نجاته، بل هي شهادة على الإنسان حين يُجبر على مواجهة الحرب والفقد، فتصبح الحياة أمامه اختبارًا مستمرًا للصمود والإرادة.
سيعيش القارئ مع الرواية في عالمٍ تهشّمت فيه الأحلام، وانكسر فيه كل أمل. لن يرى رجلًا هاربًا فقط من الحرب، بل سيرى صورة إنسان يتصارع مع الذاكرة والكوابيس، ومع كل جرحٍ تركته الحرب في جسده وروحه، لتكتشف بالفعل أن العبور بين طبقات العذاب قد يكون أحيانًا الطريقة الوحيدة للبقاء إنسانًا.
هذه الرواية شهادة هاربٍ من الحرب في عدن، وظنّ أنه ينجو منها، فإذا به يجد نفسه وسط جحيمٍ آخر لا يقلّ قسوة عن الدمار.
لقد فكر في الهرب من عدن وحربها، وكان عليه أن يسافر إلى إيطاليا ليبدأ حياة جديدة، فهرب إلى القاهرة أولًا، وهناك أمضى أيامًا قليلة استردّ فيها بعض أنفاسه، رغم تمزّقه الداخلي وصراعه الدائم مع الذاكرة. ثم بدأت رحلة العذاب من القاهرة إلى السودان، ومنها إلى ليبيا، ليحاول الوصول إلى إيطاليا.
رحلة عذابه في السودان وليبيا تمثل مرحلة من التشظي والارتباك الإنساني، إذ يُستعرض الطريق الطويل المتعرّج بين الصحراء والولايات والقرى، ومواجهة الموت لرفاقه مع العطش والحرارة والضيق، وسط الحياة البسيطة التي يعيشها أهل البلاد، التي تشبه واحةً صغيرة وسط جحيم الرحلة.
وفي ليبيا، ظهرت كل تفاصيل الرحلة بلا رحمة، وبرزت صورة الخطر الداهم، حيث صورها الكاتب بكلمات قليلة، وآلام وأوجاع كثيرة:
«عند الغروب، والسكون يلف المكان، وأصوات الأطفال ما زالت تأتي رويدًا وتخفت في ضعفها جائعة وفزعة، سمعنا جلبة بالخارج، لم يكن مسموحًا لأحد بالخروج، لكن الفوضى التي وقعت كانت واضحة بأن هناك مجموعة أخرى من الهاربين، لغات لا نفهمها، وصراخ وضرب وسب وشتم لا يتوقف، لم نصدّق بأن هذه إضافة للمجموعة التي ستغادر إلى إيطاليا... في بادئ الأمر ظن الجميع بأن لكل مجموعة قاربها الخاص، وعند منتصف الليل عندما قادتنا الوحوش إلى البحر وجدنا قاربًا متهالكًا وعدد كبير من الناس متجمهرين للركوب فيه دون وقاية أو سُتَر نجاة، أُمرنا المهربون بالركوب، ومن كان يرفض يتلقى ضربات قاتلة حتى يصعد إلى القارب بطريقة عرجاء، تقافزنا كالأرانب في قارب هش وصغير، لن يقل العدد عن مائة شخص، أمامنا البحر هائج، لم نقل شيئًا، ركبنا القارب وتم تكليف شخص من الهاربين بالقيادة، شاب إفريقي لم يقد دراجة في حياته، النساء في مقدمة القارب ومعهن أطفالهن ونحن في مؤخرته، كنت أنظر إلى رفاق رحلتي من القاهرة حتى ليبيا، وأشعر بالفزع يأكل قلبي، أشاهد الأطفال في المقدمة ويصيبني رعاش مميت، أدعو الله متلعثمًا وأنا أجهل ما أقول...و فجأة شاهدت النيران تتطاير من مقدمة القارب، نيران هائجة وأصوات انفجارات عالية، كان الموت نفسه الذي أعرفه، القدر الذي انتظرنا هنا، فقد القارب توازنه وبدأ يشتعل، ألسنة اللهب تصاعدت وتوسعت، الصيحات خرجت من أحشاء الجميع، رأيتهم يتقافزون وعلى أجسادهم النار، جحيم مستعر يأكل الجميع، النساء لم تقدر على الخروج من القارب، رأيت كثيرًا منهن يحترقن، منهن من رمت طفلها للبحر، وأنا ممسك نفسي في أسطوانة البنزين، أمامي موت وخلفي موت وعلى جهاتي الأربع موت، الكل يموت وأنا شاهد على ذلك، يسحبني رجل من خلفي ويفشل ثم يموت، يقاتل الجميع بعضهم من أجل النجاة ثم يضيعون في عمق البحر...»
وفى فقرة أخيرة مملوءة بالوجع:
"وجدت نفسي في مكان غريب، حولي أناس لا أعرفهم، يتحدثون لغة أجنبية، جسدي عارٍ تمامًا، على سرير صغير، أستعيد قواي الذهنية ولا أقدر، أتحدث إليهم دون إجابة، تأتي طبيبة وتذهب أخرى، تقلِّبني الأيادي وتضع مراهم على كل بقعة في جسدي، تشير إليَّ الطبيبة وأنا فاتح عينيَّ وفمي وأشعر بالنار تأكلني، أتحدث دون صوت، هذا ما عرفته لاحقًا"
بهدوء تقرّبت منه طبيبة نفسية، تتحدث العربية وتحاول مساعدته على التخلّص من كوابيسه، وعندما سألته: «هل كان الأمر يستحق كل هذه التضحية…؟»
كانت إجابته الدالة والمختصرة بكل ما تحمل من وجع وبدون أي كلمة في نهاية الرواية هي: بكيت!.
إن رواية «عمى الذاكرة» شهادة حيّة على التشظّي الإنساني، ومواجهة الموت والفقد. وبعد كل ما أحدثته الحرب في عدن، لم يبقَ له في النهاية سوى الدموع…!
نلتقي الأسبوع القادم، بإذن الله، مع قراءة جديدة وكتاب مختلف






0 تعليق