طوال 14 عامًا ظلت الأجواء السورية مرآة كثيفة للدخان.. اختلط رماد المدن برائحة البارود ودويّ مدافع التنظيمات الإرهابية، بتداعيات الغارات الجوية الإسرائيلية. أصبح للبلاد رائحة خاصة لا تُشترى ولا تُباع. تآمر، إرهاب، دماء، وخذلان. سنوات طويلة، تشبعت أنوف شعبها الشقيق وذاكرته برائحة حرب بدأت ناعمة، وانتهت غاشمة.
سنوات كئيبة، ظل العالم يرى في سوريا مشهدًا مأساويًا. يتابعها من نشرات الأخبار.. تغرقه ستوديوهات التحليل الموجّهة في مزاعم مصنوعة في دهاليز أجهزة استخبارات. عواصم دعم الإرهاب وجماعاته نجحت في فرض سطوتها على الرواية المعلنة. أصبح الجناة ينعمون بمعظم التغطية، ويعتّمون في المقابل على خطاب الضحية.
سوريا، تعصف بها تحديات تهدد تاريخها وهويتها الوطنية، لكن الولايات المتحدة الأمريكية تواصل التلاعب بشعارات العدالة، الأمن، والشرعية. من محافظة «درعا» جنوب غرب البلاد، بدأت عملية اختطاف الدولة. زعزعة الاستقرار كان تمويهًا على فتح الجبهة الشمالية. دخلت ميليشيات، أسلحة، ووسائل الدعم اللوجستية.
المشهد المأساوي كان مُجهّزًا بعناية. تنسيق على أعلى مستوى بين أعداء سوريا: إسرائيل، جماعة الإخوان، ودول عربية- إسلامية. استغلوا شرارة «درعا» في تكثيف الهجمات الغاشمة بطريقة همجية، حتى اقتلعوا البلاد عنوة من الجسد العربي. المخطط يعرف طريقه جيدًا. كان يحتاج فقط إلى شرارة تفجر الفوضى، وتزعزع الانتماءات الوطنية!
بعد 14 عامًا، لم تعد الكاميرات تصوّر الدخان والدمار وروائح الجثث. أصبحت تركز الآن على اللقطات الناعمة. مشهد لافت جدًا. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يعطّر، أحمد الشرع.. نعم، من كانت تتهمه واشنطن بقيادة العمليات الإرهابية. يتبادلان الابتسامات أمام وسائل الإعلام. العطر الفاخر «Victory 45-47» ينهمر على كتف «الجولاني» ووزير خارجيته أسعد الشيباني، مصحوبًا بنظرة حانية!
«عطر» ترامب، رائحته للوهلة الأولى، تبدو ممزوجة بالهيل والفوجير. تعطي شعورًا بالانتعاش والحيوية.. محاولة لتوظيف السياسة في تلطيف صورة الحرب الصاخبة. رائحته الأساسية، زهرة إبرة الراعي، تضيف لمسة هادئة ورقيقة، تمثل القوة الناعمة التي تسعى واشنطن لتسويقها بعد سنوات العنف. أما أثره الطويل على الجلد، الأخشاب والعنبر الأثقل والأطول بقاءً، فتعزز الشعور بأن النفوذ الأمريكي حاضرًا في كل تفاصيل المشهد.حضور تختصره زجاجة عطر فاخر.
رسالة غير مباشرة تقول إن الرأسمالية بلغت حدها الأقصى عندما جعلت «النصر» رائحة تُباع بـ250 دولارًا، وأن السياسة الدولية باتت تميل إلى الاحتفاء بالعلامات التجارية أكثر من احتفائها بالتحالفات. ترامب، لم يقدّم عطرًا، بل قدّم درسًا جديدًا في مفهوم القوة، انتقال من دعم الحرية عبر إلقاء القنابل إلى إطلاق بخاخات «القوة الناعمة» الأمريكية.
«عطر» ترامب (Victory 45-47) يتمحور حول الفوز والقوة والنجاح. الرقمان 45 و47 يشيران إلى ولايتَي ترامب الأولى والثانية، ويحوّلان التاريخ السياسي إلى ماركة عطرية. الماضي السياسي يتحول إلى مادة للتسويق، والأحداث الجدية تتحول إلى رموز قابلة للاستهلاك. العطر أصبح إعلانًا إيديولوجيًا يختصر استراتيجيات السيطرة الأمريكية بمنطق بسيط وواضح.
تجسدت المفارقة الرمزية للعقد الماضي في مشهد الفيديو القصير. المقطع، أثقل من أي بيان سياسي أو تقرير استخباراتي. لقطة بصرية جمعت بين القوة الرمزية والسياسة الدعائية. الولايات المتحدة لا تكتفي بتغيير الأنظمة السياسية، بل تعدّل حتى رائحتها الرمزية. السياسة تتحول إلى منتج، على طريقة السلع الفاخرة.
لكن بين رماد الحرب ورائحة العطر فرق شاسع.. تحولات مثيرة للجدل. مشاهد لايزال يسقط في فخها من يراهنون على أن الذئاب تخلّت عن توحشها لحماية الأغنام. من يتماهون إيجابًا مع مشهد البيت الأبيض لا يضعون أي اعتبارات أخلاقية. يتجاهلون أن الحرب التي بدأت في سوريا لـ«مكافحة الإرهاب» انتهت بمشهد تسويقي يحاول دمغها بـ«الشرعية».
المشهد يجعل «العطر» استمرارًا طبيعيًا لـ«الدخان». ما كان مقصورًا على غرف العمليات الأمنية والعسكرية أصبح يُدار رسميًا في القاعات الرئيسية. ما كان يُبرَّر بالمصالح الاستراتيجية أصبح يُسوَّق بمنطق «النجاح والفوز». يغرق العطر أحمد الشرع. الرجل، لم يتغير كثيرًا بقدر ما تغيّر السياق من حوله. ميدان الحرب أصبح منصّة احتفاء، فصار حليف الحلفاء.
عام 2013، كان اسم «أبو محمد الجولاني» مدرجًا (مع غيره) على لوائح الإرهاب الأمريكية. اختلفت أساليب الترميز في زمن الحرب على الإرهاب. منذ أحداث سبتمبر 2001، أصبح الترويج دراميًا كالأجواء الدولية نفسها. واشنطن أرفقت الإعلان عن تعقّبه بمكافأة مالية سخية. 10 ملايين دولار ليست رقمًا هينًا في منطقة الثروة التي تعصف بها أزمات اقتصادية!
المكافآت الأمريكية للإرشاد عن المطلوبين تبدو كأنها طُعم. من يدلي بمعلومات تقود إليهم قد يدفع حياته ثمنًا لكشف أدواتهم أو حتى الاقتراب من نطاقها الجغرافي. ليست تشجيعًا صرفًا كما يعتقد البعض. من وجهة نظري، إعلان ضمني بأن النظام العالمي، كما صاغته واشنطن، قادر على تحويل الخطر إلى سلعة قابلة للتسويق، وأدوات تلتزم بدورها المرسوم في اللعبة.
مكافأة توحي بأن الجولاني «تهديد»، وليست أحد مبرّرات الحرب العالمية على الإرهاب في سوريا والعراق. اسم شهير يبرّر التدخلات العسكرية والعمليات السرية. تظهر مفارقة عجيبة عندما نقارن تلك المرحلة بصورته الحالية. لم يعد «الجولاني» أمير ميليشيا مطلوبًا دوليًا، أصبح «الشرع» في معادلة سياسية!
براعة الأمريكيين (وشركاؤهم الإقليميون) في إعادة التدوير لم تعد مشوّقة، ربما فقدوا الشغف بحكم تكرار السيناريو طوال الـ65 عامًا الماضية. التحوّل الحاصل في ملف «الجولاني» لا يقتصر على الاسم أو الصورة، بل حوّلوه، مؤقتًا، إلى رمز للاستقرار. خلخلة الشرعية الوطنية أصبحت لعبة مسلّية في الساحة الدولية.
تتكفّل الصور، والفيديوهات، واللقاءات الرسمية، والمناسبات الدبلوماسية بطباعة غلاف جديد لـ«القيم، والمفاهيم، والمفردات» في زمن الصراعات العابرة للحدود والولاءات. تكاد السخرية تستلقي أرضًا من الضحك الهستيري وهم يحوّلون «الأعداء» إلى «شركاء». قوائم الإرهاب تصبح «قوائم تعاقدات» جديدة، ولا عزاء للإرادة الشعبية.
المفارقة تتجاوز الإقليمية إلى العالمية. من يراقبون التحول، يجدون أنفسهم أمام لعبة بصرية ورواية معقدة تتجنب المباشرة وتجنح نحو الرمزية. المطارد السابق (بالأدلة الرسمية الأمريكية) يصبح جزءًا من «الواقع الجديد» بذات الأدوات الأمريكية الرسمية. عملية تشبه تحويل المواد الخام الخطرة إلى منتجات مصقولة يتم ترويجها وسط المستهلكين بدعم الميديا الغربية.
ليست سخرية سياسية، لكنها مثال صارخ على قدرة قوى المصالح الدولية على تحويل باطلهم إلى حق. الإرهاب لم يختفِ. فقط، تم تعقيمه وتسويقه. ما كان يومًا تهديدًا أمنيًا صار اليوم مشروعًا سياسيًا وعنوان كبير لما يوصف في روايتهم بـ«الشرعية». تآكل التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش». لم يعد من مفردات المرحلة التالية.
في عام 2014، تم الإعلان عن ولادة التحالف. وتحديدًا في 7 أغسطس من العام نفسه كانت البداية. حينها أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، شرارة الحرب ضد التنظيم عبر خطاب تلفزيوني. 40 دولة وميزانية غير محدودة شكّلت جسم التحالف. كان استعراضًا عسكريًا على المسرح الإقليمي.
الهدف المعلن كان تعزيز الأمن العالمي وإرساء الاستقرار في العراق وسورية، لكن ما إن بدأت العمليات حتى ظهرت المفارقة الأولى، أقرب إلى سخرية القدر منها إلى دروس الدبلوماسية. على الأرض، تسببت مهام التحالف في فوضى منظمة، حاولت كل دولة فرض سياستها الخاصة، وكل جنرال عسكري كان له تفسير مختلف لمفهوم «الاستقرار».
تنظيم «داعش»، الذي كان مصدر «رعب إعلامي»، أصبح مكونًا غير مباشر في ديمومة أنشطة التحالف. بدت الحرب تمهيدًا لإنتاج نسخة محسّنة من تنظيم «القاعدة». الآن، بعد 14 عامًا تكاد السخرية تتجسد.40 دولة تحارب الإرهاب، ودولة واحدة فقط (الولايات المتحدة) تعرف كيف تعيد تغليفه وتحويله إلى مادة سياسية قابلة للبيع الداخلي والخارجي.
المقارنة بين التحالف العسكري وعطر «Victory 45-47»، استعارة للواقع السياسي. التحالف استخدم القوة والقنابل والطائرات بدون طيار، بينما العطر في الإعلان «الرئاسي» اللاحق يوظف الرائحة والتصميم لتسويق الانتصار. كلاهما يحاول إقناع العالم بوجود نصر، لكن واحدة تدمر الأرض، والأخرى تُعيد تشكيل المشهد بالرائحة.
سياق، تصبح فيه الحرب عبئًا على الجغرافيا وأداة لتسويق التحولات السياسية. تتحول فيه المنتجات الرمزية إلى أداة للهيمنة الناعمة، كما يظهر في فيديو «ترامب- الشرع»، لكن السؤال الأهم: هل كانت الحرب فعلًا ضد «داعش»، أم كانت مرحلة تمهيدية لإقامة نظام بديل على جثة نظام قومي- عروبي؟
هل كانت كل العمليات العسكرية تجهيزًا لإعادة تدوير العناصر الميدانية السابقة وتحويلها إلى رموز سياسية؟.. التنظيم لم يُهزم بالمعنى التقليدي، لكن تمت إعادة هيكلة التنظيم ضمن استراتيجيات السياسة الغربية، حيث يُسوَّق الإرهاب بعد «تعقيمه» ليصبح مادة قابلة للاستهلاك السياسي والإعلامي.
التحالف الدولي ضد «داعش» كشف عن استراتيجية مثيرة. الحرب يمكن أن تكون عبثية حتى مع مشاركة كل هذه الدول، والنصر ليس دائمًا بما يتحقق على الأرض (من خسائر قد تكون كارثية على الشعوب، ويكفي أنها خلّفت في سوريا أكثر من مليون قتيل)، بل بما يمكن تسويقه فيما بعد، تتحول طلقات الرصاص والقنابل ودانات الصواريخ إلى حملات علاقات عامة (متطرف سابق يلتقط صورة مع فتاة بدون حجاب، يلعب كرة مع الأعداء، يرشّونه بالعطور مع ابتسامات مليئة بالسعادة والحبور).
تبدو اللعبة الحقيقية في كيفية تحويل الإرهاب إلى منتج ترويجي متعدد الأوجه، لا يستفيد منه سوى من صنعه ورمّزه إقليميًا ودوليًا. يحدث هذا منذ زمن ولادة ما يسمى بتنظيم «القاعدة» خلال الحرب الأمريكية «المقدسة» ضد «روسيا الشيوعية»، وحتى استقبال «الشرع» من الأبواب «الجانبية».
مع اقتراب نهاية عام 2024، وصل مسلسل إعادة التدوير السياسي إلى ذروته. اسم جديد «أحمد الشرع» يحاول محو الاسم الأشهر «أبو محمد الجولاني». كل عيب حاولوا تحسينه، وكل سمعة قاتمة شرعوا في تغليفها بصورة براقة. تحويل منتج خشن إلى ماركة فاخرة. عقد من الحروب والتدخلات الأجنبية في سوريا يُصوَّر نهايته كبداية عهد لـ«الاستقرار».
تصدر الأوامر لماكينات الكذب في الإقليم وخارجه: روجوا أنه الخيار الواقعي والشرعي لإدارة سوريا الجديدة. تحول درامي استخدموا فيه كل أدواتهم التسويقية سياسيًا، دبلوماسيًا، وإعلاميًا. كثيرًا ما تحدثت الأفلام الأمريكية عن صناعة النماذج البديلة. على الشاشات كان محورها روسيا، وفي الواقع أصبحت سوريا.
كتّاب السيناريو وظفوا فكرة إنتاج نموذج حكم بديل، يتقاطع معها صراع أجهزة استخبارات، تلاعب بالولاءات داخل النخب، وإمكانية نشوء قيادة مختلفة كليًا عن المسار التقليدي للدولة. في الأفلام استخدموا الأدوات في صناعة الفوضى، تصعيد قيادة جديدة تنهي الاتحاد السوفييتي، وتعلن نهاية الحرب الباردة.
تتنوع الأعمال السينمائية والواقعية في زمن «خصخصة الحروب» وصناعة الانشقاقات والاستفادة منها. شركات الإنتاج تميل إلى توظيف الصراعات في أعمال تجمع الأكشن والاستخبارات والسياسة، وتقديمها للناس كخيار طبيعي. حرب الـ14 عامًا أصبحت حاضنة لشرعية مفروضة، لم تعد هناك حاجة لتبرير الماضي بالمعنى الأمني، أصبح مادة خام لإعادة الإنتاج السياسي.
حتى الجدل المحلي والدولي حول «الشرعية» يبدو الآن جزءًا من المشهد التسويقي نفسه. دخلت اللعبة السياسية السورية- الأمريكية فصلًا جديدًا. ترامب قرر أن يحول ما حققته الولايات المتحدة من نجاحات خلال الـ14 عاما في سوريا إلى منتج تجاري ملموس. عطر يحمل اسم «Victory 45-47».
تصميم الزجاجة يعكس هذا الخطاب الرمزي بوضوح. تمثال صغير ذهبي يجسد الزعيم المنتصر يعلو الغطاء، وكأنه يؤكد أن عبادة الشخصية في الرأسمالية المعاصرة لم تتوقف عند السياسة، بل امتدت إلى كل منتج يمكن تسويقه. الزجاجة، إعلان رمزي للهيمنة الناعمة، تذكير أن القوة الأمريكية لا تقتصر على الجيوش والاقتصاد، بل تشمل السيطرة على الرغبات والثقافة والأسواق.
اقرأ أيضاً
«ترامب» يعلن عن اتخاذ قرار حول فنزويلا بعد اجتماعاته مع المسؤولين العسكريينبعد غد.. مجلس الأمن يُصوت على مشروع القرار الأمريكي حول «خطة ترامب» في غزة
قرار أمريكي بإنهاء الإغلاق الحكومي الأطول في تاريخها.. أول تعليق لـ ترامب









0 تعليق