د. أمل منصور تكتب: العلاقات الحديثة هل تبحث عن الحب أم عن الأمان - الفجر سبورت

صدي 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

العلاقات اليوم لم تعد كما كانت في السابق، لا في معناها ولا في دوافعها. تغيّر الإنسان، وتبدّل إيقاع الحياة، وتحوّلت المشاعر من حالة عميقة تُعاش بكل تفاصيلها إلى تجربة سريعة تُقاس بمدى الراحة لا بعمق التعلق. السؤال لم يعد: هل أحببنا حقًا؟ بل أصبح: هل نشعر بالأمان الكافي لنستمر؟

كثير من العلاقات الحديثة تبدأ برغبة في الحب، لكنها تنتهي بالبحث عن الأمان. فالحب، رغم جماله، أصبح مرعبًا في ظل هشاشة الثقة وتكرار الخيبات. الناس لم يعودوا يخافون الفقد بقدر ما يخافون التورط في وجع جديد. لذلك أصبح الأمان هو الوجه الآخر للحب، لكنه أحيانًا يتحول إلى بديله.

في العلاقات القديمة، كان الحب يولّد الأمان. كانت المشاعر العميقة وحدها كفيلة بأن تُشعر الطرفين بالثقة والانتماء. أما اليوم، فالأمان هو ما يسبق الحب، لأن الناس يريدون أن يطمئنوا قبل أن يمنحوا قلوبهم. فالعاطفة أصبحت مشروطة بالضمان، والمشاعر لا تُبنى إلا فوق أرض مستقرة.

كثيرون لا يبحثون عن الحب بقدر ما يبحثون عن مكان يضعون فيه قلقهم، عن صدر لا يحاكمهم، عن وجود يثبت لهم أن العالم ما زال يحتمل الطمأنينة. ولذلك يتجه بعضهم نحو العلاقات التي تمنحهم شعورًا بالأمان حتى وإن كانت خالية من الشغف، لأن الاستقرار أصبح أثمن من اللهفة.

لكن المفارقة أن الأمان وحده لا يصنع حبًا، كما أن الحب دون أمان لا يعيش طويلًا. العلاقة التي تقوم على الأمان فقط تشبه بيتًا منظمًا لكنه بلا دفء، والعلاقة التي تقوم على الحب وحده تشبه نارًا تشتعل بسرعة وتنطفئ فجأة. التوازن بين الاثنين هو ما يجعل العلاقة حقيقية، غير أن الوصول إليه أصبح أصعب مما كان.

في العلاقات الحديثة، يتعامل الناس مع الحب بعقلانية زائدة أحيانًا. يخشون الانغماس في المشاعر، فيضعون حدودًا لكل شيء: للاتصال، للغياب، وحتى للحنين. وكأنهم يريدون أن يعيشوا التجربة دون أن يخسروا أنفسهم داخلها. هذا الحذر الزائد يجعل العلاقات أكثر أمانًا في ظاهرها، لكنها أكثر برودًا في جوهرها.

العديد من التجارب تبدأ اليوم بشغف اللحظة وتنتهي عند أول اختبار للثقة. كلمة ناقصة، أو تأخر بسيط في الرد، أو غموض في النية، كفيلة بأن تزرع الخوف. لأن خلف كل شخص ذاكرة ممتلئة بخيبات سابقة، وكل خيبة تحولت إلى جدار جديد يفصل بينه وبين الحب الحقيقي.

المؤلم أن بعض الناس لا يبحثون عن شريك بقدر ما يبحثون عن علاج لجرح قديم. يريدون من الآخر أن يمنحهم ما فقدوه سابقًا: الطمأنينة، التصديق، واليقين بأنهم يستحقون الحب. وهكذا تتحول العلاقة من مساحة مشاركة إلى مساحة تعويض، ومن لقاء روحين إلى محاولة شفاء نفسين.

في المقابل، هناك من يهرب من الحب لأنه يعرف أنه لا يستطيع منحه الأمان. يخشى أن يخذل من يحب، فيختار الانسحاب قبل أن يُطلب منه الحضور. وهؤلاء لا يكرهون الحب، بل يخافون من مسؤولية الاستمرار فيه. لأن الأمان لا يعني فقط وجود الآخر، بل يعني القدرة على الثبات في وجه التغيّرات.

التطور التكنولوجي أضاف تعقيدًا جديدًا إلى المعادلة. أصبح من السهل أن نلتقي، لكن من الصعب أن نتواصل بصدق. المسافات تذوب على الشاشات، لكن القلوب تبقى بعيدة. الحوار السريع على التطبيقات لا يخلق عمقًا، بل يخلق تواصلًا مؤقتًا يرضي الوحدة ولا يشبعها. لذلك نشأت علاقات كثيرة بلا جذور، قوامها الفضفضة لا المشاركة، والاعتياد لا الالتزام.

المجتمعات الحديثة أيضًا كرّست فكرة “الاكتفاء الذاتي العاطفي”، حتى بات البعض يرى في الحب ضعفًا، وفي الحاجة إلى الآخر تهديدًا لاستقلاله. هذا الفهم جعل العلاقات أكثر سطحية، لأنها أصبحت ساحة دفاع عن الذات لا مساحة انفتاح عليها. فبدل أن نبحث عن علاقة تنمينا، أصبحنا نبحث عن علاقة لا تؤذينا.

لكن الحقيقة أن الأمان لا يُمنح إلا داخل علاقة حقيقية، وأن الحب لا يُكتشف إلا في ظل الأمان. فكل شعور بالسكينة يولّد حبًا أعمق، وكل حب صادق يخلق إحساسًا طبيعيًا بالأمان. المشكلة ليست في أحدهما، بل في الطريقة التي نفصل بها بينهما. لأن الفصل بين الحب والأمان يشبه فصل الروح عن الجسد؛ لا يعيش أحدهما طويلًا دون الآخر.

الإنسان الحديث يعيش تناقضًا مؤلمًا: يريد علاقة تملأه دفئًا دون أن تستهلكه، يريد حبًا صادقًا دون التزامات ثقيلة، يريد أن يُحب بحرية لكنه يطالب بالضمانات. ولذلك أصبحت العلاقات تُبنى على شروط مسبقة أكثر من أن تُبنى على رغبة المشاركة. ومع كل هذا التعقيد، يظل جوهر الاحتياج بسيطًا: أن يجد كل إنسان من يفهم خوفه قبل أن يطلب حبه.

الحب اليوم لا يختفي، لكنه يتنكر في صورة الأمان. كل شخص يقول "أريد من يفهمني" يعني في العمق "أريد من يطمئنني أنني كافٍ". فالأمان هو الصورة المعاصرة للحب في زمن الشكوك، وهو اللغة التي يعبّر بها الناس عن حاجتهم إلى علاقة لا تؤذيهم. وربما لهذا السبب نرى علاقات طويلة بلا حب، وحبًا كبيرًا بلا استقرار، لأن الموازين اختلت بين الرغبة في الشعور والرغبة في الطمأنينة.

في نهاية الأمر، الحب والأمان ليسا خيارين متناقضين، بل جناحين للعلاقة الواعية. الحب يمنح الدفء، والأمان يمنح الاستمرار، والعلاقة التي تجمعهما تستطيع أن تصمد أمام الخوف والملل والاختلاف. فالعلاقات لا تنهار لأنها تفتقر إلى المشاعر، بل لأنها تفتقر إلى الأمان الذي يحمي تلك المشاعر من الانطفاء.


في أغلب الأحيان   يُنظر إلى الأمان العاطفي بوصفه أساسًا للحب الناضج، لا بديله. فالبحث عن الأمان قبل الحب يعكس حاجة الإنسان إلى الحماية بعد تراكم الخيبات، أما البحث عن الحب دون أمان فيكشف اندفاعًا عاطفيًا غير محسوب. العلاقة الصحية هي التي توفّق بين الحاجتين، فتجعل الأمان حاضنًا للحب لا قيدًا له.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق