شخصيات ارتبطت بالتراث.. حياة "الحاجة حياة" الفجر سبورت

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

إنها رحلة طالما حلمت بها إلى الأرض الطيبة.. أرض صعيد مصر.. رحلة كنت قد نسجت لها تصورًا من وحي الخيال منذ الصغر، فكان شغفي بصعيد مصر أشبه بأمنية لإنسان فى رحلة إلى أعماق ذاته، فأنا فتاة مصرية أرادت أن تغوص فى أصالة مصريتها وعندما شاء القدر أن أبدأ تلك الرحلة وجدت واقعًا يفوق الخيال من عظمة الماضى والحاضر المصري.

 كانت أولى محطاتي فى صعيد مصر هي أرض التوحيد في قلب مصر الوسطى.. وتحديدًا على ضفاف النيل الشرقي.. حيث يقف صامتًا عبر الزمان، موقعٌ شهد أعظم تحوّل ديني وفكري في تاريخ الحضارة المصرية.. هذا هو تل العمارنة.. ورغم صمت الرمال، لا تزال جدران العمارنة تهمس لنا بقصص التمرد، والحب، والبحث عن النور. إنها تل العمارنة حيث حاول ملك أن يغير مصير حضارة.. في هذه الأرض، لم تُبن فقط مدينة، بل ولدت فكرة. فكرة أن الإنسان يستطيع أن يتأمل في الشمس ويتخلى عن التقاليد ليصوغ مصيره بنفسه.

نفرتيتي "الجميلة قد أتت"

لم أكن أعلم أن هذا المكان سيكون أولى محطات رحلتي. جئت إليه مصادفة، بلا ترتيب، وكأن صوتًا خافتًا من عمق التاريخ كان يناديني.. يدعوني لأن أخطو أول خطواتي على أرض التغيير، فوق رمال غنية تنبض بأصالة الأجداد.

وشعرت كأن خطواتي على تلك الرمال تصاحبها خطوات الملكة نفرتيتي "الجميلة قد أتت" هكذا وصفوها واستشعرت قوتها تخيم على ملامح المكان وكأن رحيق قوتها امتد عبر العصور ليجسد فى الحاضر قوة المرأة الصعيدية وأصالتها وقوة تأثيرها وعندما سرد د. محمد المرشد السياحي للمكان كيف كانت نفرتيتي قوية وداعمة لزوجها الملك "إخناتون" وأنها حكمت بعده لكي تحافظ على ما قام ببنائه تحت اسم ملكي "سمنخ كا رع" وعرفت حينها بالحاكم الغامض ووجدت قصتها تجسد لى واقع المرأة المصرية ودورها الداعم الذى أصبح صفة تأصلت بداخلها كجزء من مصريتها ملكة كانت أو إمرأة بسيطة.

امرأة مصرية بسيطة

وعندما شرد ذهني فى هذه الخاطرة وجدت القدر يضع أمامي نموذجًا من الحاضر امتدت أوصاله عبر الزمن ليمزج بين الماضى والحاضر وهي "الحاجة حياة" إمرأة مصرية بسيطة ورغم بساطتها كانت خير سفير لبلدها دون منصب ولا هيئة دبلوماسية، فمصريتها وأصالتها هي ما منحتها هذا اللقب، الحاجة حياة ولدت على رمال تل العمارنة ونشأت وترعرت فى هذا المكان ولا تعرف سبيلًا أو مكانًا للعيش سوي حدود تل العمارنة حيث تكونت هويتها المصرية البسيطة ممزوجة بعبق التاريخ وأصالة الأجداد.

جاءت حياة للحياة فى أسرة تخدم السائحين بتل العمارنة وتحكي أنها منذ أن كان عمرها 10 سنوات لم تخرج من التل سوي مرات معدودة تودع بها السائحين بمحطة القطار وهي تغني لهم أغانٍ فلكلورية تعبر عن صعيد مصر وتدعوهم للعودة إلى تل العمارنة من جديد.. وبالفعل جاء اصطحاب حياة للسائحين داخل التل كرباط إنساني ربط قلوب سياح أجانب من جنسيات مختلفة ليعودوا لزيارة المكان بشكل سنوى على مدار 20 عامًا حيث أسرت عقولهم نفرتيتي بقوتها وأسرت قلوبهم حياة بإخلاصها وحبها للمكان ولعملها، وقد أفنت الحاجة حياة عمرها فى خدمة هذا المكان والسائحين المترددين عليه ليس فقط كعمل يومي لاكتساب الرزق بل على حد تعبيرها البسيط "كان عندى نية أنهم لازم يحبوا المطرح زيي وييجوا تاني وميسلوش أبدًا التل يعشجوه زي ما عشجته وولفت عليه"واختتمت كلماتها لى قائله: "نفسي أشتغل هنا لحد ما أموت".

وهكذا أصبحت حياة خير سفير لبلدها بحبها لتل العمارنة وحفظها لقصص وسرديات المكان التى قد ترددت مرارًا وتكرارًا على آذانها منذ الصغر وجسدت حياة نموذجًا حيًا للتعليم بالتلقين حيث كانت في كل مرة تسير فيها بين أطلال المعابد، تُعيد في ذهنها تلك القصص التي سمعتها على لسان جدتها والمرشدين السياحيين– عن الملك الذي عشق الشمس، وعن الملكة التي كانت تُشبهها قليلًا في الصمت والعزيمة والجمال المصري الأصيل. هناك، على رمال العمارنة، تشكّلت شخصية حياة... لا من كتابٍ مدرسي، بل من روايةٍ عاشت داخلها، حياة لم تكن مؤرخة، ولا عالمة آثار.. لكنها كانت الذاكرة الحيّة للمكان

تراث من خوص النخيل

واصلت أيضا حياة حياكة التراث بخيوط من خوص النخيل، حيث تصنع من الخوص سلالًا، وقطعًا فنية تمثل رموزًا من تل العمارنة، كقرص الشمس المجنح، أو وجه نفرتيتي الذي تحفظ ملامحه جيدًا‘ ورثت حياة هذه الحرفة من التل عن والدتها وجدتها، ولم تكن حرفتها اليدوية مجرد وسيلة للرزق؛ كانت طريقتها في حفظ الذاكرة، وترجمة الحكايات إلى أشكال ملموسة. كل قطعة من صنعها تحكي قصة، وتستدعي رائحة الزمن القديم، وتعيد الحياة إلى رموز ظلت حبيسة النقوش.

وهكذا، جسدت حياة في خوصها مزيجًا فريدًا من الفن الشعبي والتراث الفرعوني، فكانت كل سلة تنسجها وكأنها توثق مشهدًا من ذاكرة العمارنة.. تنقلها من رمال التاريخ إلى أيدي الأجيال القادمة، في مقاومة صامتة للاندثار.

وارتبط السائحون ارتباطًا شديدًا بالحاجة حياة.. ارتباط نابع من ارتباطها بالمكان وقررت مجموعة منهم أن يوثقوا تلك الذاكرة الحية للمكان كجزء لا يتجزأ من تراث تل العمارنة وهما  Betje stevens and Hermine Van Rooy  حيث قاما بإعداد وطباعة كتاب فوتوغرافي يوثق دور الحاجة حياة وأخيها ناصر بتل العمارنة تحت عنوان "Memories of Amarna" 

وهنا نجد حياة قد جسدت ببراعة قيمة إخلاص المرأة المصرية فى العمل وقوة تأثيرها التى امتدت عبر الأزمان سواء كان دورها معلنًا أو غامضًا كما فعلت الملكة نفرتيتي، ولم تعد الحاجة حياة فقط مجرد شخص يؤدى عملًا يوميًا لكنها عاشت بقلوب كل من زار التل وها نحن اليوم نقرأ عنها نتيجة لإخلاصها وقوة تأثيرها.. وربما تنتهي حياة الحاجة حياة دون أن يشعر بها أو بدورها أحد لكنها ستكون فد أدت رسالتها على أكمل وجه وخلدت نفسها وسكنت فى قلوب كل من قام بزيارة تل العمارنة.

شخصيات تستحق التوثيق

وسنجد هنا وهناك فى كل ربوع مصر شخصيات ارتبط وجودها ووجدانها بأماكن من التراث وأفنت عمرها فى خدمتها حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المكان.. هذه الشخصيات تحتاج لإلقاء الضوء عليهم وتوثيق أدوارهم وبطولاتهم المدثورة كجزء من التراث المصري.

صادف أن تزامنت خطاي الأولى نحو تل العمارنة مع حدث لم أكن أعلمه، لكنه بدا وكأن القدر قد رتّبه بدقة: ففي عام 2020، نظّمت اليونسكو ندوة عبر الإنترنت بالقاهرة لبحث استراتيجية إدارة الموقع، ومسار ترشحه ليكون أحد مواقع التراث العالمي. شعرت حينها وكأن الكون يضفي ضوءه على المكان، كأنما يُمهد له كي يُرى بعين العالم أجمع، بعد أن ظل طويلًا مطمورًا في صمت الرمال."

"لكن المفاجأة لم تكن في الحدث، بل في التحدّي فقد وجد الخبراء أن أحد أبرز العوائق أمام إدراج الموقع، هو ضعف المشاركة المجتمعية؛ إذ لا يكفي أن يمتلك الموقع قيمة تاريخية، بل يجب أن يُحتضن من قبل أهله. يحتاج إلى أناس يرونه بقلوبهم لا بأعينهم فقط. وهنا تبرز الحاجة حياة بكل ما تمثله من وعي، ومحبة، وانتماء."

"فإذا ما انتقل هذا الحب الذي تحمله حياة لتل العمارنة إلى قلوب أهل القرى المحيطة، سيتحوّل وعيهم بالمكان إلى درع يحميه، وسيتحول كل حَبّة رمل في عيونهم إلى ذاكرة يجب الحفاظ عليها. بل إن دور الدولة لا يقل أهمية: فالمؤسسات الرسمية مدعوة ليس فقط لنشر الوعي، بل لصناعة مناخٍ يكافئ النماذج الملهمة كحياة، ويُحفّز على تكرارها."

وبالفعل فى السنوات الأخيرة بدأت مصر بالتحرك الفعلي لإعداد خطة شاملة للموقع بالتعاون مع اليونسكو وجامعة كامبريدج، وهناك جهود لترميم المقابر والمعبد الكبير كما جاء أيضا قرار إيقاف الامتداد العمراني للقري المحيطة كإحدى القرارات الصائبة التى تم اتخذها من القيادات التنفيذية بحكمة وحسم للحفاظ على طبيعة تل العمارنة مما قد يسرع عملية الترشيح قريبًا.

 ونأمل أن يكون هناك توثيق لشخصيات إرتبطت بالتراث وها أنا أوثق دور الحاجة حياة وإلى اللقاء مع محطة أخرى من محطاتي بصعيد مصر ونموذج آخر من نماذج الأرض الطيبة مع سلسلة شخصيات ارتبطت بالتراث، فكما تبدأ الحكايات بخطوة، فإن لكل أرض طيبة حكاية.. وكانت حياة بدايتها.

"ربما لا تُدرَج المواقع في اليونسكو فقط بقرارات دولية.. بل بإيمان الناس أن ما على أرضهم يستحق أن يُروى، ويُحفظ، ويُحَبّ.". عن سلسلة "شخصيات ارتبطت بالتراث"

في أرضٍ تحفظ في ترابها آلاف السنين من الحكايات، لا تُروى القصة فقط بالنقوش والآثار، بل بالبشر الذين ارتبطوا بالمكان، وعاشوا فيه، وحملوه في قلوبهم كما تحمل الأم وليدها.

هم أشخاص لم تخلّدهم كتب التاريخ، ولم تُسجَّل أسماؤهم في السجلات الرسمية، لكن وجودهم ذاته كان شاهدًا حيًا على أن التراث ليس ماضيًا فقط، بل نبضًا يعيش في الحاضر.

792e26fb07.jpg
49dc59672f.jpg
8a679389eb.jpg
dc21ff3507.jpg
f9b6b4788e.jpg
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق