في زمن تتكاثر فيه صور الخراب القادمة من غزة، وتتشابك فيه الأصوات بين من يبرر ومن يبرئ، يأتي كتاب الفيلسوف الأمريكي الإيراني الأصل "حميد دباشي" ما بعد الوحشية: غزة والإبادة الجماعية ووهم الحضارة الغربية" الصادر مؤخرا عن دار نشر Haymarket Books ليضغط بقسوة على الجرح الفلسفي الأكثر عمقًا في الراهن الإنساني: كيف يمكن لمن يدّعي الحضارة أن يبرر الإبادة؟ وكيف تتحول غزة من موقع جغرافي إلى مرآة تكشف الزيف الأخلاقي والثقافي للحضارة الغربية المعاصرة؟
يأتي هذا الكتاب ليكمل مشروع دباشي الفكري الممتد منذ عقود، والذي بدأه في أعماله السابقة مثل "ما بعد الاستشراق" و"هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟" و"بشرة بيضاء - أقنعة سمراء". في هذه المؤلفات، شكّك دباشي في البنية المعرفية الغربية التي صاغت مفهوم "الآخر" وأخضعته، ويرى أن كل ما يُقدم باعتباره فكرًا إنسانيًا عالميًا هو في جوهره امتداد لعقل استعماري يحتكر تعريف الإنسان والحرية والعقل، أما في كتابه الجديد، فإنه يذهب لأبعد من ذلك، فيقلب الطاولة على الغرب ذاته، كاشفًا عن أن الإبادة في غزة ليست انحرافًا عن الحضارة الغربية بل هي تجلٍ بنيوي لها.
يبدأ دباشي كتابه بمقدمة تحمل عنوانًا صادمًا: "فلتبيدوا كل الوحوش مرة أخرى!" وهي عبارة مقتبسة من الرواية الشهيرة "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، التي صارت مرآة للخيال الاستعماري الغربي في نظر دباشي. يقول في افتتاحية الكتاب: "إن الغرب لم يتوقف يومًا عن مشروعه الإبادي، لقد غيّر فقط أدواته وخطابه. من الكونغو إلى غزة، تتكرر الجريمة بذات اللسان وذات التبرير: الدفاع عن الحضارة ضد الهمجية". بهذا الاقتباس يؤسس دباشي أطروحته المركزية: أن ما نراه في غزة ليس مجرد حرب أو صراع سياسي، بل هي لحظة انكشاف كبرى لمفهوم الحضارة الغربية ذاته.
فلسطين هي العالم
في الفصل الأول "فلسطين هي العالم، والعالم هو فلسطين"، يضع دباشي غزة في مركز الخريطة الأخلاقية للعالم. لا يرى فلسطين كقضية محلية أو إقليمية، بل كاختبار شامل لإنسانية الإنسان الحديث. يكتب: "حين تسقط القنابل على غزة، فإنها تسقط على كل ما تبقى من إنسانيتنا. فإما أن نرى فيها وجهنا، أو نفقد حقنا في أن نُسمى بشرًا". هذا الربط بين غزة والإنسانية جمعاء يمثل مفتاح قراءة أساسيًا للكتاب، إذ يعيد تعريف فلسطين من قضية سياسية إلى مرآة كونية تكشف تهافت الخطاب الإنساني الغربي.
إسرائيل هي الغرب
أما في الفصل الثاني، "إسرائيل هي الغرب، والغرب هو إسرائيل"، فيقدّم دباشي تحليلًا فكريًا جريئًا، يرفض فيه الفصل بين الكيان الصهيوني والوعي الغربي الذي أنشأه. يقول: "إسرائيل ليست مشروعًا خارجيًا عن الغرب، بل هي الغرب وقد تجسّد في كيان سياسي وعسكري على تخوم الشرق". في هذا المنظور، تصبح فلسطين ساحة اختبار للعقل الأوروبي ذاته، حيث يمارس عنفه المؤسس باسم التنوير والحرية وحقوق الإنسان. وهنا يستدعي دباشي أطروحات مفكرين مثل فرانز فانون وإدوارد سعيد، ليبرهن أن ما يسميه الغرب "تمدينًا" كان دومًا فعلًا من أفعال الوحشية المقنّعة.
الشعر بعد الإبادة
في الفصل الثالث "الشعر بعد الإبادة"، يستلهم دباشي المقولة الشهيرة للفيلسوف الألماني أدورنو "إن كتابة الشعر بعد الحرب فعل همجي"، لكنه يعيد صياغتها في ضوء غزة، فيسأل: "هل يمكن للفكر أن يتكلم بعد الإبادة؟ هل يمكن للشعر أن يشهد حين يتحول العالم إلى صمت رمادي؟" يجيب دباشي بأن الكتابة بعد الإبادة ليست فعلًا جماليًا، بل مقاومة للطمس، ورفض للنسيان. ويرى أن شعراء غزة اليوم يكتبون بأجسادهم لا بالكلمات، وأن "القصيدة صارت جسدًا يصرخ في وجه التاريخ".
الفلسفة بعد الوحشية
وفي الفصل الرابع "الفلسفة بعد الوحشية"، ينتقد دباشي صمت الفلاسفة الغربيين حيال المجازر في فلسطين. يكتب بحدة: "كيف يمكن لفلاسفة الحداثة الذين ملأوا الدنيا حديثًا عن العدالة والعقل أن يصمتوا أمام إبادة تُبث على الهواء؟ إن هذا الصمت ليس محايدًا، بل هو شكل من أشكال التواطؤ". هنا يُعيد دباشي التفكير في معنى الفلسفة ذاتها، معتبرًا أن الفلسفة التي لا تواجه الإبادة تفقد شرعيتها الأخلاقية. ويضيف في فقرة بالغة القوة: "الوحشية ليست خروجًا عن الحضارة، بل هي جوهرها حين تتجرد من أقنعتها".

دولة الحراسة
في الفصل الخامس "دولة الحراسة ضد المعسكر الفلسطيني"، يقدم دباشي تحليلًا سياسيًا فلسفيًا لبنية العنف في النظام العالمي المعاصر. يرى أن إسرائيل ليست فقط كيانًا استعماريًا، بل نموذج مصغر لما يسميه "دولة الحراسة" في النظام النيوليبرالي العالمي، أي الدولة التي تحمي مصالح القوة الرأسمالية ضد الشعوب المهمشة. في نظره، فإن غزة تمثل "المعسكر" الذي يُراد له أن يبقى رمزًا للعقاب الجماعي، حيث يتحول البشر إلى سجناء في تجربة إنسانية مغلقة. ويكتب: "في زمن المراقبة الشاملة، صار الفلسطيني هو المواطن العالمي الجديد، الذي تُختبر عليه كل تقنيات السيطرة والعقاب".

المشروع الإنساني
أما الفصل السادس "فلسطين ما وراء الحدود"، فيوسع فيه دباشي الرؤية إلى أفق عالمي، فيربط بين نضال الفلسطينيين وبين حركات المقاومة في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، والولايات المتحدة. يقول: "حين يرفع فلسطيني حجرًا في وجه الدبابة، فإن كل مظلوم في العالم يشعر بأن هذا الحجر يخصه هو أيضًا". هنا يلتقي مشروع دباشي النقدي بمشروعه الإنساني الأوسع، الذي يرى في المقاومة فعلًا كونيًا يتجاوز الحدود القومية أو الدينية.
في الخاتمة التي جاءت بعنوان "الكتابة في زمن الإبادة"، يؤكد دباشي أن الكتابة ليست ترفًا فكريًا بل فعل مقاومة وجودي. يقول: "الكتابة في زمن الإبادة هي أن ترفض الصمت، أن تكتب لأنك لا تملك إلا الكلمات في مواجهة آلة الفناء". ويضيف: "إن ما يفعله الفلسطينيون اليوم ليس فقط دفاعًا عن أرضهم، بل دفاع عن معنى أن نكون بشرًا في هذا العالم المتوحش". بهذه الكلمات يختتم الكتاب، مؤكدًا أن غزة لم تعد مجرد مكان، بل صارت اسمًا آخر للضمير الإنساني.

العالم الفكري لدباشي
من الناحية الفكرية، لا يمكن فهم هذا الكتاب دون الإحاطة بمشروع حميد دباشي الأوسع. وُلد دباشي في إيران عام ١٩٥١، وهاجر إلى الولايات المتحدة حيث حصل على الدكتوراه في علم الاجتماع الثقافي من جامعة بنسلفانيا، ويشغل اليوم موقع أستاذ الدراسات الإيرانية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا. في أعماله المتعددة، يُعد دباشي أحد أبرز تلامذة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، لكنه تجاوزه في بعض الجوانب، إذ لم يكتفِ بتفكيك الخطاب الاستشراقي بل اتجه إلى نقد البنية الفلسفية للحضارة الغربية ذاتها. يرى أن الفكر الغربي، منذ التنوير، قام على مركزية أوروبية تجعل من "الآخر" مادة للمعرفة لا شريكًا فيها. ولهذا فإن مشروعه الفكري هو مشروع "تحرير المعرفة" من الهيمنة، وإعادة بناء مفاهيم الإنسانية والحرية والهوية من منظور عالمي متعدد الأصوات.
يتضح هذا المنحى في كتابه الشهير "هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟" الذي طرح فيه سؤالًا مزلزلًا عن حدود العقل الغربي في استيعاب تجارب الشعوب الأخرى. كما في كتابه "ما بعد الاستشراق"، الذي اعتبره كثيرون من أهم الردود الأكاديمية على أطروحات صموئيل هنتنجتون وبرنارد لويس حول "صدام الحضارات". وفي "بشرة بيضاء - أقنعة سمراء"، قدّم قراءة نقدية لتاريخ التمثلات العنصرية في الثقافة الأوروبية، رابطًا بين التنوير والاستعباد، بين الفلسفة والهيمنة. كل هذه المؤلفات تمهد لفهم "ما بعد الوحشية"، حيث تتقاطع الفلسفة بالسياسة، والمجاز بالواقع، والهوية بالدم.
على مستوى الأسلوب، يتميز دباشي بلغته الكثيفة المشبعة بالرموز والاستعارات، التي تمزج بين النقد الفلسفي والسرد الأدبي. لا يكتب كأكاديمي محايد، بل كمنخرط في معركة أخلاقية وفكرية ضد النظام العالمي. وفي هذا الكتاب تحديدًا، يوازن بين التحليل الفلسفي والتوثيق التاريخي، وبين الغضب الإنساني والتأمل الميتافيزيقي. يمكن القول إن دباشي يكتب من موقع "الشاهد الفيلسوف"، الذي لا يصف المأساة من الخارج، بل يعيشها بوصفها امتحانًا للوعي الإنساني ذاته.
وهم الحداثة الغربية
من اللافت في هذا الكتاب أنه لا يتوجه فقط إلى الغرب، بل أيضًا إلى المثقفين العرب والمسلمين الذين، في رأيه، انساقوا وراء "وهم الحداثة الغربية". فهو يرى أن "التحرر من الاستعمار لا يكتمل إلا بتحرير المخيلة من مركزية الغرب"، وأن "الانبهار بالحداثة هو شكل آخر من أشكال الاستلاب". بهذا المعنى، فإن "ما بعد الوحشية" لا يكتفي بنقد الغرب، بل يدعو إلى تفكير جديد في الذات والآخر، في المعرفة والسلطة، في معنى المقاومة بوصفها فعلًا فلسفيًا لا سياسيًا فحسب.
في النهاية، يترك دباشي قارئه أمام سؤال لا يملك الهروب منه: إذا كانت الحضارة الغربية قد بلغت هذا الحد من العنف المبرر، فما معنى أن نكون متحضرين؟ يجيب في فقرة تلخص الكتاب كله: "ليست الوحشية نقيض الحضارة، بل هي اللحظة التي تكشف فيها الحضارة عن وجهها الحقيقي حين تنهار أقنعتها الأخلاقية". في ضوء هذا الوعي، تتحول غزة من جرح سياسي إلى رمز كوني، ومن مأساة محلية إلى سؤال وجودي مفتوح على مصير الإنسان الحديث.
بهذا الكتاب، يثبت حميد دباشي مرة أخرى أنه أحد أبرز الأصوات الفلسفية في عالم ما بعد الكولونيالية، وأن فكره ليس مجرد نقد للغرب، بل محاولة جريئة لاستعادة المعنى الأخلاقي للحياة في زمن باتت فيه الوحشية هي اللغة السائدة.











0 تعليق