قصة الأجنحة العابرة على مرمى الخطر
5.7 مليون طائر مهاجر بين مسار النجاة ومصيدة الموت
من سماء أوروبا إلى جزر النيل: قصيدة الطائر المهاجر بين ملاذ «منيل شيحة» وخطر «البرلس».
سياحة المشاهدة تواجه صيحات الغدر
كيف نحول أسراب الهجرة إلى ثروة مستدامة بدل الوجبات السريعة.
في الخامسة صباحًا، لا يزال قلب القاهرة الكبرى يغط في سبات عميق، لكن شريانها الأزلي، نهر النيل، يبدأ يومه بصوت الأجنحة.
كنا هناك فى صبيحة السبت الماضي على ضفاف منيل شيحة بالمعادي، حيث تبدأ الرحلة التي نظمتها الجمعية المصرية لحماية الطيور بالتعاون مع جمعية كتاب البيئة
رحلة من نوع خاص تستكشف فيها عالم الطيور التي تجد فى جزر النيل ملاذا امنا ونرصد مخاطر تتعرض لها تلك الضيوف التي تهاجر من موطنها الالف الأميال فى رحلة ربانية تعانى فيها من مخاطر وتهديدات تتطلب أن يقف الجميع لمواجهتها حتى لا تغيب الطيور المهاجرة
كانت نقطة الانطلاق مركباً صغيراً، من منطقة المعادي جاء ليخترق بنا ظلمة الفجر برفقة الهواء البارد الذى يلف الوجه بنسمات رطبة تخبر عن يقظة النهر، وصوت الموج الخفيف على الجوانب يمثل النشيد الوحيد للمكان، قبل أن تبدأ جوقة الطيور.
كنا هنا بدورنا لنرصد ونحذر فوجدنا أنفسنا نستمتع ونغوص مع نسمات النهر المنعشة لنبحث عن إجابات مختبئة في هذا الممر المائي الهادئ، الذي يُعد محطة استراحة حيوية على مسار الهجرة الأفرو-أوروبي. تبدو الجزر النيلية، كـجزيرة الدهب أو الجزر الرملية الصغيرة العائمة، في هذه الساعة وكأنها معابد بيضاء متلألئة.
هنا في هذه الموائل الرطبة القريبة من العاصمة، تتجمع طيور الماء والطيور المهاجرة. حيث تعد منطقة منيل شيحة وجزر النيل بالمعادي بمثابة «نقطة استشفاء» للطيور المهاجرة المنهكة قبل عبور الصحراء.
شاهدتُ أول الأسراب، كانت أعداداً كبيرة من طيور البلشون الأبيض «Egret» تقف كتماثيل الرخام على أطراف الجزر، تستعد لإكمال رحلتها. وإلى جوارها، كانت أنواع من البط البري والكيش تستريح بعد ليل طويل من الطيران. وبعد عدة أمتار تجد.مالك الحزين الرمادي «Grey Heron» ذلك الطائر الكبير والهادئ، الذى يفضل الوقوف بلا حراك لصيد الأسماك على الأطراف المائية.
أما صياد السمك الأبقع «Pied Kingfisher» فتراه يحوم فوق سطح الماء ثم يهوي بسرعة لصيد الأسماك، وهو مشهد مميز على النيل.
وهذا هو الغاق الكبير «Great Cormorant» وهو طائر غطاس، يرى غالباً واقفاً على الصخور أو الأغصان، ناشراً جناحيه ليجففهما بعد الصيد.
فيما وقفت دجاجة الماء « Moorhen» والغر «Coot» لتتغذى بين القصب والنباتات الكثيفة في الجزر النيلية.
مشهد مثير وممتع فى رحلة تجاوزت الساعات الأربع تعيش فيها فى ذلك المركب الصغير لتركي عالم واسع من حياة الطيور المهاجرة التي تعتبر محطة نيل القاهرة أهم مطار طبيعي تستخدمه مئات الأنواع كنقطة تزويد بالوقود.
كان الشعور خليطاً من الرهبة والأسى، رهبة من عظمة الرحلة البيولوجية التي قطعتها هذه الكائنات، وأسى على هشاشة هذا المشهد الجميل. فالكثير منا يعلم جيدًا أن هذه الطيور، التي تستمد قوتها من الطين النيلي الآن، تواجه خارج هذه الدائرة الهادئة مصيراً مختلفاً تماماً. هذا السلام الذي يغلف منيل شيحة ما هو إلا خدعة بصرية. فبمجرد أن يرتفع الطائر ليواصل مساره جنوباً، سيكون قد دخل مباشرة في حيز الخطر الذي يهدد بقاءه.
لذلك قررنا أن نرصد من نيل القاهرة المشاهد الثلاثة الأخرى التي تهدد مسار الهجرة بأكمله. إن مصير هذه الطيور، التي تعبر فضاء مصر كجسر يربط بين القارات، معلق بين هذا الجمال الهادئ والتهديدات القاتلة.
تهديدات
رحلتنا كانت عبر تتبع بعض مسارات الطيور والمخالفات التي يرتكبها الصيادون والجهود التي يقوم بها حماة الطبيعة لإنقاذهم من الشراك القاتلة عبر رحلتها الطويلة ومنها منطقة الساحل الشمالي، وتحديداً في محيط محمية البرلس الطبيعية، تتجسد المأساة الكبرى
حيث تمتد «جدران الموت» كما يرصد دكتور خالد النوبي رئيس الجمعية المصرية لحماية الطيور فتجد شباك صيد رقيقة من النايلون، منصوبة على ارتفاعات منخفضة وأطوال قد تصل إلى كيلومترات لتكون فيها الطيور المنهكة من رحلتها لتسقط فيها ظنا منها أنها ملاذ آمن لتجد نفسها معرضة للموت والبيع بثمن بخس لتنتهى الرحلة بصورة مأساوية
لكن ما يقوله النوبى لا يكترث به عم
«أبو علي» وهو شيخ في الخمسينيات من عمره، تعابير وجهه محفورة بقسوة الحياة في الدلتا. يرى أبو علي أن الصيد لم يعد مهنة كريمة، بل أصبح صراعاً يائساً للبقاء. «زمان كنا نعرف الحلال من الحرام في الصيد.كنا نترك الطير المنهك يكمل رحلته. كنا نصنع فتحات في الشباك لهروب الطيور الكبيرة، نأخذ فقط ما يكفي»، يتذكر بصوت مبحوح وهو يشد أوتاد شبكة «الدِبْشَة» (الشبكة الأرضية) التي يراها الطائر كأرض عادية للراحة. لكن الحاجة كسرت القواعد.الأسرة تحتاج، والمصاريف تتزايد، وسوق الأسماك لم يعد سخياً بما يكفي، فاضطر الجميع إلى نصب هذه الفخاخ القاتلة. «يا دوب سعر السمانة يغطي حق إيجار البيت»، يهمس أبو علي، وهو يجد نفسه مضطراً لبيع الطائر المنهك بأرخص الأثمان إلى تاجر الجملة الذي لا يرى فيه سوى بضاعة رخيصة لموائد المطاعم.
وإذا كان أبو على يصطاد وهو متعب الضمير فهناك شباب الصيادين ومنهم عزت الذى يستخدم التكنولوجيا المُضللة. حيث يضع أجهزة صوتية متطورة تبث نداءات الطيور (نداءات التجمع أو الاستغاثة) على نطاق واسع. وكما يصف عزت «الطير بيكون قاطع المسافة وواصل آخره، أول ما يسمع نداء بني جنسه، بينزل زي المغناطيس، بيثق في الصوت وبيقع في المصيدة مباشرة». هذا الخداع البيولوجي، الذي يحظره القانون المصري بشدة، يضمن أكبر حصيلة بأقل مجهود، لكنه يفاقم الجريمة البيئية ويحطم أي فرصة لبقاء الطائر المنهك
هذا الدافع الاقتصادي الهش هو الوقود الذي يغذي الصيد الجائر. كما يتابع خالد النوبي فالأرقام الرسمية المتداولة ترسم صورة قاتمة فإجمالي عدد الطيور التي يتم صيدها بطرق غير مشروعة في مصر قد يصل إلى نحو 5.7 مليون طائر سنوياً. الجزء الأكبر من هذا النزيف مرتبط بطائر السمان البري «Common Quail» وطائر القمري «Turtle Dove»، حيث أشارت الدراسات إلى أن صيد السمان وحده في مناطق شمال الدلتا قد بلغ نحو 2.5 مليون طائر سنوياً من إجمالي تعداد الأنواع الأرضية، وهو رقم يهدد هذا النوع بـ الانقراض المحلي.
مشهد آخر وهو لأكثر تعقيداً ويقع عند خليج السويس، تحديداً في منطقة جبل الزيت. هذه المنطقة هي عنق الزجاجة الحقيقي للطيور الحوامة الكبيرة التي لا تخفق أجنحتها إلا عند الضرورة القصوى، بل تعتمد على التيارات الهوائية الدافئة لـ الطيران الشراعي في رحلتها الطويلة. في الربيع وحده، يمر من هذا الممر الجبلي الضيق نحو مليوني طائر حوّام، بمن فيهم نسبة حرجة من فصائل مهددة عالمياً.
هنا، تقع مزارع توربينات الرياح العملاقة، رمز طموح مصر نحو الطاقة النظيفة. لكن شفرات هذه التوربينات تشكل خطراً مميتاً. الطيور الكبيرة، التي تركز على تيارات الهواء ولا تتوقع وجود عائق صناعي، تصطدم بالشفرات الدوارة في مشهد مأساوي يضع التنمية في مواجهة مباشرة مع البيئة. إن الكشف عن الأنواع الأكثر تضرراً يضع القضية في سياق عالمي مقلق.
وهنا يؤكد محمد حسين، مدير برنامج الطاقة بالجمعية المصرية لحماية الطبيعة، على أننا بحاجة إلى مقاربة متكاملة في التعامل مع البنية التحتية، مشيراً إلى أن التهديد يتجاوز التوربينات: «نحن بحاجة إلى النظر إلى جانبين متكاملين: خطوط النقل الكهربائي وتوربينات الرياح».
ويضيف حسين «عندما نتحدث عن الطيور الجارحة، فإن النسب حاسمة. عقاب السهول مهدد، وتمر منه نسبة تصل إلى 50% من إجمالي العقبان المهاجرة عبر المسار، بينما نجد أن طائر الباشق الشامي يمر منه ما يقارب 90% من الإجمالي العالمي عبر هذا الممر، وهي أرقام تضعنا أمام مسؤولية تاريخية. والأهم أن الخطر الحقيقي لا يقتصر على الصقور، بل يتعداها إلى الأنواع الأكبر. العقبان والنسور واللقالق هي الأكثر عرضة للتصادم مع البنية التحتية، بينما نادراً ما يتم تسجيل حوادث اصطدام للصقور، نظراً لقدرتها العالية على المناورة والمراوغة أثناء الطيران. الخطر الأكبر على الصقور يظل هو الصيد غير المشروع بهدف التهريب».
ويشدد حسين على دور خطوط الكهرباء: «لقد كنا في الجمعية أول من التفت لخطورة تصادم الطيور مع خطوط نقل الكهرباء. وقمنا ببحث ميداني استمر لمدة ثلاث سنوات (2019-2021)، للتركيز على المناطق الأكثر حساسية لتصادم الطيور مع هذه الخطوط، وخرجنا بنتائج مبهرة لأكثر المناطق التي تشهد هذا التصادم. منذ ذلك التوقيت والجمعية تعمل بجهد على تأمين خطوط الكهرباء، وتم تركيب علامات تحذيرية للطيور في أكثر الخطوط حساسية، وتحديداً في خط نقل الطور - شرم الشيخ لمسافة 20 كيلومترًا، وهو المسار الذي كان يتسبب في قتل أعداد كبيرة نتيجة التصادم. وبالتالي، فإن تأمين مسار الهجرة يجب أن يتضمن تأمين شبكة الكهرباء بالكامل».
وللتعامل مع تحدي التوربينات، اتجهت الدولة نحو تطوير آلية «الغلق عند الطلب» (Shut-down on Demand). هذه الآلية تتطلب رصداً فورياً للطيور باستخدام رادارات وكاميرات متطورة، وإغلاق التوربينات مؤقتاً عند اقتراب الأسراب. هذا الإجراء الفني والبيئي معقد، ويتطلب التزاماً مالياً وفنياً لتأمين سلامة مليوني طائر دون تدمير خطط الطاقة المتجددة. وقد أعلنت الجهات المعنية عن إعداد دراسة تقييم استراتيجي شاملة للمنطقة، من المقرر الانتهاء منها بحلول فبراير 2026، لدمج برامج صون الطيور الحوامة بشكل كامل ومستدام في قطاع الطاقة.
تحرك حاسم
هذه المشاهد الثلاثة «مذبحة الساحل، وفخاخ النيل، وتوربينات وخطوط الرياح» دفعت الحكومة المصرية إلى تحرك قانوني حاسم. في محاولة لوقف النزيف البيئي والوفاء بالالتزامات الدولية فجاء القرار الوزاري رقم 242 لسنة 2025 ليضع إطاراً قانونياً صارماً للصيد، معيداً رسم خريطة الصيد المشروعة والمحظورة في البلاد.وذلك بالحظر الشامل والقاطع بشكل مطلق في جميع المحميات الطبيعية «كالبرلس والزرانيق وأشتوم الجميل»، بالإضافة إلى بحيرة ناصر ومناطق الوادي الجديد.وهذا يضمن تحرير مساحات شاسعة من سيطرة الصيادين غير القانونيين.
كما تم تقييد الصيد القانوني بثلاثة أنواع فقط «السمان، القمري، الشرشير الصيفي» في مواسم محددة جداً «مثل 1 سبتمبر حتى 15 نوفمبر 2025» وفي 8 محافظات ساحلية فقط، مما يقلص بصورة كبيرة نطاق النشاط.
وتم تجريم التكنولوجيا المُضللة و حظر استخدام الأجهزة الصوتية الجاذبة للطيور بشكل قاطع، وهو ما يوجه ضربة مباشرة لممارسات «عزت» ومن على شاكلته.
فيما فُرضت الحكومة قيود صارمة على شباك الصيد، إذ يجب ألا يقل بعدها عن الشاطئ عن 200 متر، وألا يزيد ارتفاعها عن 3 أمتار، مما يقلل بشكل كبير من فعاليتها كفخاخ ضخمة.
وألزم القرار الصيادين المرخص لهم بـ إطلاق سراح جميع الطيور الأخرى غير المصرح بصيدها. وفيما يتعلق بالعقوبات، فإنها تظل نقطة ضعف. فمع أن القوانين المصرية تتيح فرض غرامات، إلا أن الحد الأقصى للعقوبة المالية على الصيد الجائر قد يصل إلى 50 ألف جنيه مصري. هذا المبلغ، مهما بدا كبيراً للصياد الفقير كـ «أبو علي»، فإنه يظل زهيداً جداً أمام الإغراء المادي لتهريب الطيور النادرة، خصوصاً الصقور، التي قد يصل سعر الطائر الواحد منها في أسواق التهريب الخليجية إلى مئات الآلاف، مما يجعل العقوبة غير رادعة فعلياً للمهربين الكبار الذين يجنون مكاسب طائلة.
إزالة المخالفات
تزامنت هذه القرارات مع حملات تفتيش مكثفة، كما يشير حسين رشاد مدير محميات اشتوك الجميل ببورسعيد حيث أعلنت وزارة البيئة، إزالة آلاف الأمتار من الشباك المخالفة في البرلس وأشتوم الجميل، وتأكيد على أن تطبيق القانون وتكثيف الدوريات هو الضمان الوحيد للسلامة.
اتفاقيات دولية
في نهاية المطاف يجب أن نعلم أن الخطر الذي يواجه الطيور المهاجرة هو تهديد لـ مصداقية مصر الدولية والتزامها نحو البيئة العالمية. فمصر من أوائل الدول التي وقعت على اتفاقيات محورية مثل اتفاقية صون الأنواع المهاجرة (CMS/اتفاقية بون) والاتفاقية الأفريقية الأوراسية للطيور المائية المهاجرة (AEWA)، و كانت مصر أول دولة من خارج أوروبا تنال جائزتها الدولية للصون، اعترافاً بجهودها التاريخية.
ولكن والحديث للدكتور شريف بهاء الدين رئيس الجمعية المصرية لحماية الطبيعة فان استمرار نزيف 5.7 مليون طائر سنوياً يضع ضغطاً هائلاً على هذه الالتزامات. الحل المستدام يكمن في إيجاد بدائل اقتصادية تحول الصياد من مدمر إلى حامٍ. ولعل نشاط سياحة مشاهدة الطيور (Bird Watching) يمكن أن تكون البديل الأهم. هذه السياحة تدر عائداً اقتصادياً أعلى بكثير وتعد قطاعاً عالمياً ضخماً. و تطوير مناطق مثل منيل شيحة على النيل كنقاط رصد آمنة، واستغلال المحميات الشمالية، ومرصد جبل الجلالة، يمكن أن يحول الثروة البيولوجية العابرة إلى ثروة اقتصادية دائمة ومستدامة للمجتمعات المحلية.
انتهت رحلتنا التي بقدر ما كانت ممتعة كانت مرهقة لنا لكنها سلوك غريزة أبدى للطيور المهاجرة التي ستواصل رحلتها، فالهجرة غريزة لا تموت. السؤال الآن هو: هل ستظل مصر جسراً للعبور الآمن، أم ستتحول إلى مقبرة مفتوحة لـ ملايين الأجنحة الواثقة؟ الإجابة ستحدد وجهتنا فإنقاذ هذه الطيور هو إنقاذ لتاريخنا البيئي ومستقبلنا الاقتصادي، وهو التزام يجب أن يمتد من شواطئ البرلس إلى جزر منيل شيحة، ومن فخاخ الصيادين إلى شفرات التوربينات وخطوط نقل الكهرباء. الرهان الأكبر يظل على قدرة الدولة والمجتمع على إحداث هذا التحول الإنساني والاقتصادي قبل أن تصبح أجنحة ملايين الطيور مجرد أرقام باردة في تقارير الانقراض.
اقرأ أيضاً
«حتى تعود الطيور».. صرخة من أجل حياة تُحلِّق في السماءضبط 1000 متر من شباك صيد الطيور بمحمية البرلس ضمن الاستعدادات لموسم الهجرة
«بريشة فنان وعين عالم».. إطلاق كتاب أجنحة ملوّنة لحماية الطيور المصرية

















0 تعليق