حين قال الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، إن قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات هو «قاطرة تنمية الشباب»، لم تكن عبارته بروتوكولية أو للاستهلاك الإعلامي، بل تعبيرًا عن اختبار سياسي واقتصادي حقيقي لقدرتنا على تحويل هذه «الميزة النظرية» إلى مكاسب ملموسة: وظائف نوعية، وصادرات خدمية متزايدة، ومكانة تنافسية لا تتأثر بتقلبات السوق أو ضغوط الاقتصاد.
الوعود كبيرة، والمشهد واعد: خمسون مشروعًا جديدًا مع خمسين شركة كبرى تتوسع في مجال التعهيد، وقمة عالمية للتعهيد تُعقد يومي 9 و10 نوفمبر برعاية رئيس الوزراء، بتنظيم وزارة الاتصالات و«إيتيدا»، بالقرب من المتحف المصري الكبير — في إشارة واضحة إلى أن الدولة تقول: «الوقت الآن للاقتصاد القائم على المعرفة»، وأن مصر تمضي لتترسخ كمركز إقليمي لتصدير الخدمات الرقمية.
لكن خلف هذا الزخم، تبرز تحديات لا تقل أهمية عن الطموح ذاته. فالتعهيد لم يعد مجرد مراكز اتصال منخفضة التكلفة، بل أصبح صناعة متكاملة تشمل تحليل البيانات، والأمن السيبراني، ودعم الذكاء الاصطناعي. نعم، لدينا طاقات شبابية هائلة، وتعليم تكنولوجي يتوسع، وبنية اتصالات قوية، لكن المنافسة الإقليمية والعالمية شرسة — من المغرب وتونس والأردن إلى الهند والفلبين وبولندا. والتفوق هنا لا يتحقق بالأجور المنخفضة فقط، بل بمنظومة متكاملة من التشريعات المستقرة، وسهولة تأسيس الشركات، وحماية البيانات، وحوافز ترتبط بالأداء الحقيقي لا بالتصريحات.
الفرصة الكبرى تكمن في نشر هذه المشروعات خارج القاهرة الكبرى، لتتحول المحافظات إلى مراكز تشغيل وتدريب تصنع طبقة وسطى جديدة. أما الذكاء الاصطناعي، فهو ليس خصمًا بل حليفًا إذا أحسنا توظيفه، إذ يفتح آفاقًا جديدة لوظائف الإشراف البشري وتصنيف البيانات وتطوير المحتوى.
القطاع يحتاج إلى ميثاق جودة صارم، وسياسات مالية مستقرة، وحوافز تشجع على الابتكار والاستدامة. فالتعهيد ليس رفاهية اقتصادية، بل أداة استراتيجية لجلب العملة الصعبة ودعم التنافسية. والمستثمر لا يقرأ الشعارات، بل يقرأ مؤشرات الثقة: استقرار العملة، وضوح الضرائب، وسرعة تحويل الأرباح.
ولعل إعلان الشراكة المصرية القطرية لتنمية منطقة «علم الروم» في مطروح يتقاطع مع هذه الرؤية، إذ تُبنى كل المشروعات الحديثة اليوم على أعمدة رقمية من مراكز بيانات وشبكات ألياف وأمن سيبراني. فلو أُحسن الربط، لتحولت هذه المشروعات إلى مختبرات تدريب وفرص تصدير مستقبلية.
وأخيرًا، ليس صدفة أن تُقام القمة قرب المتحف المصري الكبير؛ فاقتصاد المستقبل لا يتعارض مع حضارة الماضي، بل يستلهم منها الدقة والإبداع. مصر التي شيدت أعقد هندسة حجرية، قادرة اليوم على بناء هندسة رقمية تضاهيها.
إن مصر تمتلك معظم القطع على رقعة الشطرنج: شبابًا، وموقعًا استراتيجيًا، وبنية اتصالات متقدمة. وما تحتاجه فقط لاعب جريء يُحسن التخطيط والتنفيذ قبل أن يتحرك الآخرون. ففي لعبة التعهيد، من يصل أولًا يربح مرتين: عقدًا اليوم، وسمعةً تصنع الغد. وعلى الحكومة أن تُثبت أن «القاطرة» لا ترفع البوق فقط، بل تسير فعلًا نحو المستقبل.














0 تعليق