غزة واللعب تحت جغرافيا المصالح: الهيمنة التركية بين لعنة التاريخ وإغراء الجغرافيا - الفجر سبورت

الأسبوع 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في الشرق الأوسط، لا تنتهي الحكاية عند هدير المدافع أو صمت البنادق، فثمة حرب أخرى تُدار بصمتٍ أشدّ ضجيجًا من الرصاص: حرب النفوذ. ومن بين كل خرائط النار الممتدة من جبال قنديل إلى صحراء سيناء، تظلّ غزة مساحة رمزية تختزل كل تناقضات المنطقة، ومرآةً يرى فيها كل لاعبٍ إقليمي انعكاس طموحه القديم.

اليوم، بينما العالم يتفرّج على مشهد إنساني غارق في الدمار، تُعيد أنقرة ترتيب أوراقها على رقعة الجغرافيا الفلسطينية، وكأنّها تستدعي ظلّ الإمبراطورية المفقودة لتمنح نفسها دورًا جديدًا تحت لافتة إنسانية، وهي في جوهرها سياسية محضة. فالرئيس التركي يدرك أن طريقه نحو النفوذ في المشرق لا يمرّ عبر الحرب فقط، بل عبر غزة، حيث تتقاطع المشاعر الإسلامية مع الحلم العثماني القديم، في لحظة تلتبس فيها المأساة بالفرصة.

لكنّ الجغرافيا لا تمنح مجدًا مجانيًا، فغزة التي كانت عبر التاريخ بوابة الأنبياء والمقاتلين والتجّار، تتحوّل اليوم إلى بوابة للمساومات الإقليمية. فمن خلف شعارات الدعم الإنساني، تنسج أنقرة خيوطًا دقيقة تربطها بملفات أكبر: شرق المتوسط، الطاقة، والحدود البحرية. وما يبدو تضامنًا إنسانيًا هو في الحقيقة استثمار سياسي في رمزية الدم الفلسطيني.

إنّ اللعب التركي تحت جغرافيا المصالح لا يختلف كثيرًا عن محاولات القوى الأخرى — من طهران إلى الدوحة إلى تل أبيب — في توظيف المأساة لصالح حسابات القوة. لكنّ الفارق أنّ أنقرة تمتلك خطابًا مزدوجًا يجمع بين الدين والسياسة، بين البكاء على أنقاض غزة والجلوس على طاولة تفاوض في الناتو، حيث تُصاغ توازنات القوة بلغة المصالح لا المبادئ.

في هذا المشهد الملتبس، يتقدّم الدور التركي وكأنه عودةٌ إلى التاريخ. لكنّ التاريخ لا يعود، بل يتكرّر بأقنعة جديدة. فبينما تُرفع الشعارات عن "تحرير القدس" و"نصرة فلسطين"، تتحرك في الخلفية مصالح اقتصادية مع إسرائيل نفسها، من الغاز إلى التجارة، في مفارقةٍ تفضح جوهر اللعبة: جغرافيا بلا قداسة، ومقدسات تُدار كملفّاتٍ سياسية.

ولأنّ الشرق الأوسط لا يحتمل فراغًا، تسعى القاهرة لتثبيت توازن جديد في وجه هذا التمدد.فمصر، التي تعرف جغرافيا غزة بقدر ما تعرف دماءها، لا يمكنها أن تترك البوابة الجنوبية في يد قوى تحركها الأيديولوجيا أكثر من الواقعية. ومن هنا، تتحول ساحة غزة إلى مساحة تنافس ناعم بين القاهرة وأنقرة، بين منطق الدولة العريقة ومنطق الزعامة العاطفية.

إنّ لعنة الجغرافيا في هذه المنطقة أنها لا تسمح بالحياد.فكل من يقترب من غزة، ينجذب إلى مغناطيسها التاريخي، ويغرق في طينها السياسي. ومع كل حربٍ أو هدنة، يتجدّد السؤال: من يملك الحق في التحدث باسمها؟ من يملك مفاتيح معابرها؟ ومن يدير دماءها كورقة تفاوض على طاولات القوى الكبرى؟

في النهاية، لا يمكن قراءة الدور التركي في غزة إلا في ضوء معادلة أوسع: من يملك بوابة الشرق يملك روايته.

وأنقرة، في سعيها لاستعادة المجد، تمارس السياسة كما لو كانت كتابةً جديدة على جدار التاريخ، لكنها تنسى أن الحروف هناك محفورة بدماءٍ لا تُمحى.

إنّ غزة ليست ميدانًا للهيمنة، بل مرآةً تكشف هشاشة الطموح حين يختلط بالدم، وتعيد تذكير الجميع أن الجغرافيا ليست لعنة في ذاتها، بل فيمن يظنّ أنه قادر على امتلاكها.

من غزة إلى بيروت: اتساع الطموح التركي

من غزة إلى بيروت ودمشق، يتكرّر المشهد ذاته، وإن اختلفت الأسماء والرايات. فتركيا، التي تسعى لترسيخ موطئ قدم على البحر المتوسط، تدرك أن طريقها لا ينتهي عند حدود فلسطين.

الملف اللبناني يفتح لها نافذة على شرق المتوسط الغني بالغاز، فيما تمنحها الساحة السورية رئةً استراتيجية تمتد حتى الحدود العراقية.

هكذا تتشكل خريطة النفوذ التركي الجديدة — من شمال حلب إلى سواحل غزة، ومن إدلب إلى الجنوب اللبناني — في محاولةٍ لبناء قوس جغرافي من النفوذ الرمزي والسياسي، يربط بين حنين التاريخ ومصالح الطاقة الحديثة.

لكنّ هذه الجغرافيا، مهما بدت مغرية، تظلّ محكومة بعاملٍ واحد: أنّ من يمدّ يده على خرائط الآخرين، لا يكتب مستقبلًا بل يُعيد تدوير ماضيه!!

اقرأ أيضاً
واشنطن تُخطئ قراءة الجغرافيا السياسية لغزة.. ومصر تتحرك لترميم البيت الفلسطيني

الجغرافيا المقدّسة بين أطماع إسرائيل ومكانة السعودية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق