يشهد لبنان في الأسابيع الأخيرة حراكًا دبلوماسيًا وعسكريًا غير مسبوق، مع تصاعد الضغط الدولي والإقليمي لاحتواء النفوذ المسلح وتحجيم قدرات حزب الله، وسط تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب البلاد وضواحي بيروت.
المحادثات المكثفة، التي تشارك فيها مصر والولايات المتحدة والأمم المتحدة، تهدف لإعادة التوازن الأمني والسياسي، مع تصعيد تحذيرات واشنطن للبنان حول جدية نزع السلاح، في سياق مواجهة مباشرة بين الدولة اللبنانية وإسرائيل على الأرض والسياسة والاقتصاد.
وفي إطار الحراك الدبلوماسي المكثف، شهد لبنان زيارات متتابعة للمبعوثين الأمريكيين توم براك ومورجان أورتيجاس، إضافة إلى زيارة رئيس المخابرات المصرية اللواء حسن رشاد، بهدف عرض الوساطة المصرية بعد نجاح اتفاق غزة في شرم الشيخ.
وساطة مصرية وتحذير أمريكي وسط 5000 اعتداء إسرائيلي
وتعمل مصر على الوصول إلى صيغة نهائية للتفاوض، والمساهمة في استقرار الجنوب، ودعم جهود التهدئة بالتنسيق مع الأمم المتحدة، والإسراع في حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية ونزع سلاح حزب الله، مع الإعلان عن زيارة مرتقبة لبراك الأسبوع المقبل.
وأكد السفير المصري في بيروت، علاء موسى، أن مصر تدعم موقف الرئيس اللبناني جوزيف عون بشأن حصر السلاح، وتمتد يد العون في هذا المجال، مشيرًا إلى أن جهود مصر تهدف لتهدئة الأوضاع، وأن التطورات الأخيرة في الاعتداءات الإسرائيلية من حيث المدى والوتيرة تستدعي اتخاذ إجراءات احترازية.
وتصر واشنطن على استمرار الضغط على الحكومة اللبنانية للإسراع في خطة سحب السلاح، وقد وصل الأمر إلى حد التهديد بالتدخل العسكري إذا لم تتخذ الحكومة والجيش اللبناني خطوات جدية لنزع سلاح حزب الله، في رسائل تؤكد أن هذه هي الفرصة الأخيرة للبنان للقيام بذلك خلال أسابيع قليلة، مقابل توقع الحكومة أن العملية قد تمتد حتى نهاية العام الحالي.
ويبدو أن واشنطن، بدعم من إسرائيل، تتعجل هذه الخطوات، متهمة الحكومة اللبنانية بالتلكؤ، بينما تتوالى التسريبات في الصحف الأمريكية (أبرزها: وول ستريت جورنال)، حول جهود حزب الله لإعادة بناء قدراته العسكرية.
تصعيد عسكري في الجنوب والضاحية وبليدا.. وعون يأمر الجيش بمواجهة أي انتهاكات
وتغذي تصريحات أمين عام الحزب، نعيم قاسم، هذا الاتجاه، حيث أكد عدم التخلي عن السلاح، مع إعادة تخزين الصواريخ ومضادات الدبابات والمدفعية، وبعض هذه الأسلحة يصل عبر الموانئ البحرية وطرق التهريب عبر سوريا، فيما أفاد المصدر ذاته بأن الحزب يصنع بعض الأسلحة الجديدة داخليًا.
وأكدت صحيفة «لوفيجارو»، الفرنسية ما أشار إليه أمين عام حزب الله، من أن الحزب يعمل حاليًا على إعادة ترميم قدراته، حيث تقوم الصحيفة بتسليط الضوء على أن نشاط الحزب يتم بشكل كامل تحت الأرض، مع إعادة بناء هيكله القيادي وقوته العسكرية، بما يشمل تبني قيادات شابة، وإعادة توزيع المسئوليات لتعزيز السرية، وتقليص الاتصالات الخارجية، ونقل مقاتلين إلى معاقل داخل البقاع، مع الحفاظ على بعض الصلات داخل أجهزة لبنانية معنية أصلاً بملف نزع السلاح.
وفيما يخص الجولة الجديدة من المفاوضات التي تقودها المبعوثة الأمريكية، مورجان أورتيجوس، فقد جاءت بالتزامن مع تحليق إسرائيلي بطائرات مسيرة حول القصر الرئاسي، فضلاً عن تنفيذ إسرائيل عدة غارات جوية على بلدة «العيشية»، مسقط رأس الرئيس اللبناني، ومناطق الجروق والمحمودية وكفر رمانا وتبة طلال، بالإضافة إلى غارات على الضاحية الجنوبية لبيروت وسماء بعبدا، مقر الرئاسة اللبنانية.
وشنت إسرائيل غارات مكثفة على الجنوب اللبناني، وتوغلت بريًا في بلدة «بليدا»، حيث ارتكبت ما يمكن وصفه بجريمة حرب مكتملة الأركان، باقتحام مقر مجلس "البليد" البلدي وإعدام الموظف إبراهيم سلامة داخل المبنى وهو نائم.
حراك دبلوماسي مكثف لإعادة التوازن الأمني والسياسي.. وتل أبيب تواصل استفزازاتها
أثار هذا الحادث سخطًا واسعًا في لبنان، خاصة لدى الرئيس عون، الذي منح الجيش اللبناني الضوء الأخضر للتصدي لأي انتهاك إسرائيلي على الأراضي اللبنانية، مما وضع الجيش في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وقد أثنى أمين عام حزب الله، نعيم قاسم، على موقف الرئيس قائلاً: «إن موقف الرئيس يبنى عليه».
واتهم نعيم قاسم الولايات المتحدة الأمريكية بأنها راعية العدوان، وأن دورها يقتصر على دعم إسرائيل وإدانة لبنان، مشيرًا إلى أن كل زيارة لمبعوث أمريكي للبنان تترافق مع تصعيد الاعتداءات، وتساءل: «ما هو الموقف من خمسة آلاف خرق إسرائيلي؟ لم نسمع إدانات، وهم يعتدون على الجيش وقوات اليونيفيل»، داعيا الحكومة إلى دراسة خطة لدعم الجيش اللبناني، لتمكينه من التصدي للاعتداءات وحماية الأراضي.
رفض إدراج وزراء أو سفراء في لجنة «الميكانزم».. وعقوبات مالية على عشرات اللبنانيين
وصف رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، حادثة «بليدا»، وانتهاك الأجواء فوق العاصمة بيروت والضاحية الجنوبية بأنها تجاوز واضح للاستباحة الإسرائيلية للسيادة الوطنية اللبنانية وقرارات الأمم المتحدة، مؤكدًا أنها عدوان على لبنان لا يمكن التغاضي عنه أو الاكتفاء بالإدانة الشكلية.
وأدان عون، في سبتمبر الماضي اعتداءً إسرائيليًا على قوات اليونيفيل باستخدام قنابل مسيرة أثناء عملهم في إزالة العوائق على الخط الأزرق، مؤكدًا أن إسرائيل استهدفتهم عمدًا لأنها كانت على علم بمهمتهم.
حزب الله يعيد بناء هيكله العسكري تحت الأرض ويطور صواريخه وسط مراقبة دقيقة
وأشار الرئيس إلى أن هذا الاعتداء يستدعي تحركًا دوليًا لإلزام إسرائيل باحترام الحصانة الدولية الممنوحة لحفظة السلام، خاصة أن الاعتداءات الإسرائيلية على المدن والقرى في الجنوب تستهدف المدنيين والمنازل والمنشآت المدنية بشكل مستمر ويومي.
وقدمت المبعوثة الأمريكية مورجان أورتايجوس طلبًا للحكومة اللبنانية بأن تضم لجنة الإشراف على وقف الأعمال القتالية (الميكانزم) عناصر مدنية ووزراء ومسئولين أمنيين وسياسيين ذوي مناصب رفيعة، في مؤشر على حث واشنطن لبنان على تفاوض مباشر مع إسرائيل.
وقبلت الرئاسة إشراك مسئولين أمنيين في اللجنة، لكنها رفضت إدراج وزراء أو سفراء. وأوضح الرئيس جوزيف عون، خلال استقباله وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول، أن شكل التفاوض وموعده ومكانه ستُحدد لاحقًا، مؤكِّدًا أن خيار التفاوض يهدف إلى استعادة الأراضي المحتلة، وإعادة الأسرى، وتحقيق الانسحاب الكامل من التلال، لكنه لفت إلى أن الطرف المقابل لم يُظهر تجاوبًا واستمر في الاعتداءات على الجنوب والبقاع مع تصاعد حدة الأحداث.
وترى واشنطن أن العمليات الإسرائيلية تسير وفق3 محاور: المحور الأول يركز على الضربات قرب الحدود الجنوبية لشل قدرة حزب الله ومنعه من إعادة تشغيل منصات الصواريخ، المحور الثاني يمتد شمال الليطاني لاستهداف مراكز القيادة والسيطرة وعزل القيادة عن الميدان، والمحور الثالث في البقاع يهدف إلى تدمير الخطوط اللوجستية الخاصة بتخزين السلاح والصواريخ بعيدة المدى.
تسعى واشنطن، بدعم من إسرائيل، إلى إضعاف البنية المالية لحزب الله. ووفق صحيفة "نداء الوطن"، تواصل وزارة الخزانة الأمريكية، بعد فرضها قبل نحو أربعة أشهر عقوبات على عدد من اللبنانيين المرتبطين بحزب الله والنشاطات المالية الإيرانية، مراقبة استمرارهم في تنفيذ معاملات بملايين الدولارات لدعم مصالح الحزب، وتشمل القائمة: نعمة أحمد جميل، عيسى حسين قصير، سامر حسن فواز، عماد محمد بزي، علي محمد كرنيب، علي أحمد كريشت، ومحمد سليمان بدير.
كما جُدِّدت العقوبات على ناظم سعيد أحمد وصالح عاصي ضمن حملة تهدف إلى تفكيك الشبكات المرتبطة بمحور طهران. وتدرس الإدارة الأمريكية توسيع العقوبات لتشمل سياسيين وزعماء لبنانيين يحمون هذه المنظومة أو يعرقلون قيام الدولة، ما يعمّق من صورة لبنان كدولة رهينة لصراعات خارجية.


















0 تعليق