اتجهت أنظار العالم مساء أمس نحو القاهرة، حيث تم رسميًا افتتاح جميع قاعات المتحف المصري الكبير، في حدث ثقافي يُعد الأكبر في تاريخ مصر الحديث. هذا الصرح، الذي استغرق بناؤه أكثر من عشرين عامًا، لا يمثل مجرد متحف، بل مرآةً تعكس سبعة آلاف عام من حضارة لا تزال تنبض بالحياة.
منذ اللحظة الأولى لدخوله، يشعر الزائر أنه لا يعيش تجربة مشاهدة للآثار فحسب، بل رحلة زمنية حقيقية بين العصور، يمكنه من خلالها أن يتجول باستخدام تقنيات الواقع المعزز بين تماثيل الملوك والملكات، بدءًا من البهو العظيم حيث يقف رمسيس الثاني شامخًا، وحتى الدرج المهيب الذي يصعد بك نحو أسرار الملوك.
المتحف.. مدينة ثقافية متكاملة
ويقول الدكتور عيسى زيدان مدير عام الترميم ونقل الآثار بالمتحف، إن الزائر العادي قد يحتاج من ثلاثة إلى أربعة أيام لاستكشاف أقسام المتحف المختلفة، بينما يحتاج المتخصص في الآثار إلى شهر كامل للتعمق في معروضاته الهائلة.
ولا يقتصر دور المتحف على العرض فقط، بل يمتد ليكون مؤسسة ثقافية حضرية متكاملة. فهو يضم قاعات دراسية ومراكز بحثية للدارسين، إضافة إلى قاعات عرض مؤقتة تستضيف معارض زمنية تمتد لعدة أشهر، ما يمنح المتحف طابعًا متجددًا يجذب السائح المتخصص باستمرار.
التكنولوجيا في خدمة التاريخ
من أبرز ما يميز المتحف المصري الكبير هو دمج التكنولوجيا الحديثة بالتراث الفرعوني، عبر قاعة محاكاة الواقع الافتراضي، التي تتيح للزائر رؤية تطور بيئة الدفن عند المصري القديم بتقنيات ثلاثية الأبعاد، في تجربة تجمع بين العلم والمتعة البصرية.
ولم ينس المتحف فئة الأطفال، إذ خصص لهم متحفًا للطفل يهدف إلى غرس الانتماء الوطني في نفوس الصغار وتعريفهم بجذور حضارتهم بأسلوب تفاعلي مشوّق.
كما يضم المتحف قاعة مؤتمرات عالمية ومنطقة تجارية متكاملة تحتوي على مطاعم ومقاهٍ ومساحات للراحة، إضافة إلى مركز للزوار يُوفر خدمات إرشادية متعددة اللغات. ويؤكد الدكتور زيدان أن المتحف تم تصميمه ليتناسب مع احتياجات ذوي الهمم وكبار السن، حيث تم تجهيز الممرات والنماذج بطريقة برايل، لتمكينهم من لمس النقوش والقراءة التفاعلية.
معرض توت عنخ آمون ومراكب الشمس.. الكنوز تتحدث
ومن بين أبرز ما ينتظره الزوار في الافتتاح، عرض مجموعة توت عنخ آمون الكاملة لأول مرة في مكان واحد، إضافة إلى أحد مكونات مراكب الشمس التي تعود إلى الملك خوفو. هذه القطع تمثل رموزًا خالدة لروح الحضارة المصرية، وتعيد إلى الأذهان قصة الإنسان المصري الذي كان يؤمن بالخلود والبعث، ويرى في الموت رحلة نحو الأبدية.
القاهرة.. مدينة لا تنام استعدادًا للحدث
وعاشت القاهرة حالة غير مسبوقة من النشاط السياحي. الفنادق امتلأت بالكامل، والشوارع المحيطة بالمتحف شهدت استعدادات أمنية وتنظيمية على أعلى مستوى.
ويقول الخبير السياحي عاطف بكر عجلان إن ما يحدث الآن ليس مجرد ارتفاع موسمي في نسب الإشغال، بل بداية مرحلة جديدة من الانتعاش السياحي المستدام في مصر.
إشغالات قياسية في قلب القاهرة
قال عجلان إن فنادق منطقة وسط القاهرة وصلت إشغالاتها إلى نحو 100%، مع عدم توفر غرف شاغرة تقريبًا. وأشار إلى أن الطلب على الإقامة تجاوز الطاقة الاستيعابية للفنادق، مما دفع شركات السياحة إلى حجز غرف إضافية في فنادق مدينة الشيخ زايد و6 أكتوبر، بالإضافة إلى الشقق الفندقية والمنشآت الصغيرة لتغطية احتياجات الوفود الأجنبية والعربية القادمة لحضور حفل الافتتاح.
وأوضح أن فنادق منطقة الأهرامات سجلت هي الأخرى نسب إشغال بلغت 100% منذ منتصف أكتوبر، مع ارتفاع الأسعار بنحو 20% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، نتيجة التزايد الكبير في الطلب وتزامنه مع بداية الموسم الشتوي، الذي يُعد من أكثر المواسم جذبًا للسياح في مصر.
المتحف الكبير.. محور الترويج السياحي العالمي
وأضاف عجلان أن شركات السياحة أدرجت المتحف المصري الكبير ضمن برامجها الترويجية في المعارض والأسواق العالمية، معتبرًا أن هذا الصرح الحضاري سيكون المحور الرئيسي للترويج السياحي لمصر خلال المرحلة المقبلة.
وأشار إلى أن قطاع المطاعم والمنشآت السياحية المجاورة للمتحف شهد تطورًا واضحًا في مستوى الخدمات والجودة، ما يعزز ثقة السائحين ويدعم توسّع الاستثمارات في البنية التحتية السياحية.
وأكد أن الاهتمام العالمي بالمتحف المصري الكبير لا يقتصر على كونه موقعًا أثريًا فحسب، بل رمزًا للحضارة المصرية الحديثة التي تمزج بين التاريخ العريق والرؤية المستقبلية.
فنادق مغلقة بالكامل حتى منتصف نوفمبر
أوضح الخبير السياحي أن بعض الفنادق من فئة الأربع والخمس نجوم أغلقت الحجوزات تمامًا حتى منتصف نوفمبر المقبل، نظرًا للطلب الكثيف من الوفود القادمة من أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.
وأشار إلى أن موسم الانتعاش من المتوقع أن يستمر حتى احتفالات الكريسماس ورأس السنة، خاصة مع زيادة رحلات الطيران القادمة إلى القاهرة ومطار سفنكس الدولي، الذي أصبح وجهة رئيسية للرحلات السياحية القصيرة والمتوسطة.
برامج سياحية جديدة برؤية مبتكرة
وتابع عجلان أن العديد من شركات السياحة بدأت في تقديم برامج جديدة تحت مسمى "اليوم الكامل"، وتشمل زيارة المتحف المصري الكبير ثم جولة في منطقة الأهرامات، يعقبها غداء في أحد المطاعم المطلة على الأهرامات.
واعتبر هذا النوع من البرامج نقلة نوعية في السياحة الثقافية المصرية، إذ يتيح للسائح تجربة متكاملة تجمع بين التاريخ والترفيه في يوم واحد، وهو ما يعكس تطور الفكر التسويقي لدى شركات السياحة المصرية.
تأثير الحدث على مستقبل السياحة المصرية
يرى الخبير عاطف بكر عجلان أن افتتاح المتحف المصري الكبير يمثل نقطة تحول حقيقية في مستقبل السياحة المصرية، ليس فقط لأنه سيجذب ملايين الزوار سنويًا، بل لأنه سيسهم في تنويع أنماط السياحة في مصر بين ثقافية وترفيهية وعائلية.
كما سيساعد في تعزيز صورة مصر كوجهة آمنة ومتطورة، قادرة على تنظيم أحداث عالمية بحجم هذا الافتتاح التاريخي، وهو ما ينعكس إيجابًا على الاستثمارات السياحية والفندقية.
فجر جديد للحضارة المصرية
ها هو المتحف المصري الكبير يفتح أبوابه أخيرًا، ليُعيد إلى القاهرة مجدها الثقافي العالمي، ويُعيد إلى المصريين فخرهم بحضارتهم الخالدة.
وبينما يتوافد الزوار من كل حدب وصوب، لا يمكن إلا أن نشعر أن هذه ليست مجرد لحظة احتفال، بل لحظة ولادة جديدة لمصر، تكتب فيها سطورًا جديدة من تاريخها الذي لا ينتهي، بين ماضيٍ خالد ومستقبلٍ واعد يسطع من قلب الجيزة، حيث يقف رمسيس الثاني شاهدًا على أن الحضارة المصرية لا تموت، بل تتجدد دائمًا.


















0 تعليق