رمز القوة والعظمة.. رحلة الملك رمسيس الثاني من صخب القاهرة إلى بهو المجد في المتحف المصري الكبير - الفجر سبورت

صدي 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في صيف عام 2006، شهدت مصر واحدة من أعظم عمليات النقل الأثري في تاريخها الحديث، حين تحرك تمثال الملك رمسيس الثاني، رمز القوة والعظمة الفرعونية، من موقعه الشهير في ميدان رمسيس بوسط القاهرة إلى مقره الجديد في المتحف المصري الكبير قرب أهرامات الجيزة. لم تكن تلك مجرد عملية نقل حجر ضخم يزن أكثر من 80 طنًا، بل كانت ملحمة وطنية جمعت بين العلم، والإرادة، والحب العميق للحضارة المصرية التي تمتد جذورها إلى سبعة آلاف عام.

البداية.. حلم بدأ قبل التنفيذ

بدأ التفكير في نقل تمثال رمسيس الثاني عام 2004، حين تزايدت المخاوف من التلوث البيئي والضوضاء التي تحيط بالميدان المكتظ وسط العاصمة. كان التمثال يقف هناك منذ أكثر من نصف قرن، شاهداً على تغيرات المدينة وأجيالها. ومع مرور الوقت، أصبح الوضع البيئي مهدداً لسلامة الأثر، فبرزت فكرة نقله إلى مكان أكثر أماناً وهيبة، ليكون أول ما يستقبل الزوار في المتحف المصري الكبير.

الدراسات استمرت أربع سنوات متواصلة، تخللها تعاون بين خبراء الآثار والمهندسين المتخصصين، لوضع خطة محكمة تضمن نقل التمثال دون أن يصيبه أي ضرر.

التحدي الأعظم.. كيف يتحرك رمسيس؟

لم تكن المهمة سهلة بأي حال. فالتمثال يزن 83 طناً، ويبلغ ارتفاعه عدة أمتار، وكان يقف في منطقة مزدحمة أسفل كوبري ميدان رمسيس، وسط زحام العاصمة وتلوثها البيئي والبصري. احتاج الفريق الهندسي إلى ابتكار حلول غير تقليدية لتحريك هذا الأثر الضخم لمسافة تجاوزت 20 كيلومتراً حتى يصل إلى المتحف الجديد.

التحضير شمل صناعة نموذج مماثل للتمثال بنفس الوزن لإجراء تجارب عملية تحاكي عملية النقل الحقيقية. وبعد العديد من الدراسات والتجارب، استقر الرأي على نقله في وضع رأسي، حفاظاً على إحداثياته الأصلية، وعلى مظهره المهيب الذي يعكس عظمة الفراعنة.

من قلب القاهرة إلى الجيزة.. رحلة العشرين ساعة

في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً من يوم 25 أغسطس عام 2006، بدأ التمثال رحلته التاريخية. سارت القافلة ببطء شديد، محاطة بفرق هندسية وأمنية متخصصة، وسط متابعة إعلامية وشعبية واسعة.
المصريون اصطفوا على جانبي الطريق، يصفقون ويبكون، في مشهد مؤثر يعكس ارتباط الشعب العميق بتراثه. استغرقت الرحلة نحو 20 ساعة متواصلة حتى وصلت القافلة إلى موقع المتحف المصري الكبير في السابعة صباحاً من اليوم التالي، وسط فرحة وطنية عارمة.

التكنولوجيا في خدمة التاريخ

كشف المهندس أسامة كمال، أحد المشاركين في عملية النقل ورئيس القطاع المشرف على المعدات بشركة المقاولون العرب، عن أسرار هذا الإنجاز الهندسي الفريد. فقد استخدم الفريق سيارات خاصة من نوع All Steering تتميز بقدرتها العالية على المناورة في المساحات الضيقة، مما ساعد على تجاوز العديد من العقبات في الطريق الطويل الممتد من ميدان رمسيس إلى الهرم.

كما صمم الفريق المصري نظاماً هيدروليكياً متكاملاً مكوّناً من أربع بساتم ووحدة دعم خارجية، لرفع التمثال وإنزاله بدقة متناهية داخل بهو المتحف، دون أي خلل في توازنه أو إحداثياته. والمثير للإعجاب أن هذه التقنية صُنعت بالكامل في مصر بعد أن رفضت شركات أوروبية كبرى المشاركة في العملية خشية المخاطرة بالتعامل مع أثر بهذه القيمة التاريخية.

المرحلة الأخيرة.. الدخول إلى البهو العظيم

بعد الوصول إلى المتحف، واجه الفريق تحدياً جديداً تمثل في إدخال التمثال إلى البهو العظيم، وهو المكان المخصص له ليستقبل الزوار فور دخولهم.
كانت الفكرة الهندسية المبتكرة تقضي برفع التمثال باستخدام النظام الهيدروليكي، ثم سحب السيارات من تحته بهدوء، ليهبط بعدها التمثال تدريجياً إلى موقعه الجديد في وضعه الدقيق دون أي ميل أو اهتزاز.

استغرقت هذه العملية ساعات طويلة من التركيز والدقة، حتى استقر رمسيس أخيراً شامخاً كما كان قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، لكن هذه المرة في أبهى صورة داخل المتحف المصري الكبير.

رمز وطني خالد

لم يكن نقل تمثال رمسيس مجرد إنجاز هندسي، بل كان رسالة وطنية تؤكد قدرة المصريين على الجمع بين الأصالة والحداثة. فقد تحولت العملية إلى لحظة فخر جماعي، أثبتت أن مصر لا تنقل آثارها فحسب، بل تنقل تاريخها بعناية ووعي ومسؤولية.

واليوم، يقف التمثال في مدخل المتحف المصري الكبير، يرحب بالزوار من مختلف أنحاء العالم، شاهداً على مجد حضارة لا تنتهي. ومع اقتراب افتتاح المتحف رسمياً في الأول من نوفمبر، سيعود رمسيس ليتصدر المشهد من جديد، هذه المرة في بهو العظمة، ليحكي قصة مصر القديمة والحديثة معاً.

من ميدان المدينة إلى قلب الحضارة

رحلة رمسيس الثاني من ميدان القاهرة المزدحم إلى بوابة المتحف المصري الكبير لم تكن مجرد عملية نقل أثر، بل كانت ملحمة وطنية وإنسانية تضاف إلى سجل الإنجازات المصرية الحديثة.
لقد أثبتت تلك التجربة أن الحضارة لا تُصان بالكلمات فقط، بل بالفعل والعلم والإخلاص. واليوم، بعد مرور ما يقرب من عقدين على تلك اللحظة التاريخية، لا يزال التمثال شامخًا، يروي للأجيال القادمة قصة مصر التي تحترم ماضيها وتبني مستقبلها بثقة وإبداع.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق