في الوقت الذي تتصاعد فيه وتيرة العنف الدامي في إقليم دارفور، وتتحول مدينة الفاشر إلى مسرح مفتوح لواحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث، يعيش السودان على وقع واحدة من أكثر أزماته تعقيدًا وتشابكًا صراع ألقى بظلاله الثقيلة على المشهدين السياسي والإنساني، ودفع البلاد إلى حافة الانهيار الكامل.
فبين مدن مدمرة ونزوح جماعي لمئات الآلاف من المدنيين، وانهيار شبه تام في الخدمات الأساسية، تتزايد التحذيرات الدولية من دخول الإقليم مرحلة “الإبادة الجماعية” في ظل صمت عالمي أثارا تساؤلات حول جدوى النظام الدولي في مواجهة مثل هذه الكوارث.
وفي الوقت الذي تتعالى فيه أصوات الاستغاثة من داخل دارفور، تعجز المنظمات الإنسانية عن الوصول إلى معظم المناطق المنكوبة بسبب الحصار المفروض وانعدام الأمن، ما فاقم معاناة السكان الذين يواجهون الجوع والعطش والأوبئة والموت اليومي دون أي أمل في انفراج قريب.
أستاذ قانون دولي: الفاشر على مفترق طرق والعالم أمام خيارات حاسمة
قال الدكتور محمد محمود مهران أن مدينة الفاشر السودانية تقف على مفترق طرق خطير بعد الإبادة الجماعية المستمرة وأن المجتمع الدولي أمام خيارات حاسمة ستحدد مصير آلاف الأرواح البريئة.
حدد الدكتور مهران عدة إجراءات عاجلة من منظور القانون الدولي يجب اتخاذها فورا، تبدأ بإصدار قرار ملزم من مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع من الميثاق يفرض وقفا فوريا لإطلاق النار وحماية المدنيين، موضحا أن المادة 39 من الميثاق تمنح المجلس صلاحية تحديد وجود تهديد للسلم والأمن الدوليين واتخاذ التدابير اللازمة.
واضاف أنه يجب نشر قوات حماية دولية تحت مظلة الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي لحماية المدنيين ومنع استمرار الجرائم، مؤكداً أن مبدأ مسؤولية الحماية المعتمد في قمة الأمم المتحدة 2005 يلزم المجتمع الدولي بالتدخل عندما تفشل الدولة في حماية سكانها من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
وأشار أيضا الي ضرورة فتح ممرات إنسانية آمنة فورا لإيصال المساعدات الغذائية والطبية العاجلة ووقف استخدام التجويع كسلاح حرب، لافتا إلى أن القانون الدولي الإنساني يلزم أطراف النزاع بتسهيل مرور المساعدات الإنسانية وأن منعها يشكل جريمة حرب.
كما أكد علي أهمية إحالة الوضع في دارفور للمحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة مرتكبي الجرائم، موضحا أن مجلس الأمن سبق أن أحال الوضع في دارفور للمحكمة عام 2005 ويجب تفعيل هذا الملف وإصدار مذكرات اعتقال جديدة بحق المسؤولين عن الجرائم الحالية.
وتابع: مع فرض عقوبات اقتصادية وسياسية صارمة على القادة المسؤولين عن الجرائم بما في ذلك تجميد الأصول ومنع السفر وحظر توريد الأسلحة، مؤكدا أن المادة 41 من الميثاق تمنح مجلس الأمن صلاحية فرض تدابير لا تتطلب استخدام القوة المسلحة، وتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة لتوثيق الجرائم وجمع الأدلة لاستخدامها أمام المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية.
وحول السيناريوهات المحتملة للفترة القادمة حدد أستاذ القانون الدولي ثلاثة احتمالات رئيسية، متمثلة فى السيناريو الأول والأسوأ: استمرار التقاعس الدولي مما يؤدي لإبادة جماعية كاملة في الفاشر وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا وتهجير قسري لمئات الآلاف، محذار من أن هذا السيناريو سيكرر مأساة رواندا ويلطخ سمعة المجتمع الدولي للأبد.
ولفت الي أن السيناريو الثاني يتمثل فى تدخل إقليمي محدود من دول الجوار أو الاتحاد الأفريقي لوقف المجزرة دون غطاء دولي كامل موضحا أن هذا قد يوقف النزيف مؤقتا لكنه لن يحقق حلا مستداما دون التزام دولي شامل.
أما السيناريو الثالث والأكثر إيجابية أشار إلي امكانية تحرك دولي حاسم بقيادة مجلس الأمن يوقف المجزرة ويفرض حلا سياسيا شاملا، مؤكدا أن هذا السيناريو يتطلب إرادة سياسية حقيقية من الدول الكبرى خاصة الولايات المتحدة والصين وروسيا للتغلب على خلافاتها وإنقاذ الأرواح.
وختم الدكتور مهران بنداء عاجل للمجتمع الدولي مؤكدا أن الوقت ينفد والفرصة الأخيرة لإنقاذ الفاشر قد تضيع قريبا. وشدد على أن القانون الدولي يوفر جميع الأدوات اللازمة لكن المطلوب هو إرادة سياسية وضمير إنساني حي محذرا من أن التاريخ لن يرحم الصامتين على هذه المجزرة.
سعيد الزغبي: الفاشر دخلت مرحلة كوارثية.. والخطر تجاوز حدود العنف العابر إلى انقسام إثني وجغرافي
قال أستاذ السياسة سعيد الزغبي إن مدينة الفاشر دخلت مرحلة كوارثية غير مسبوقة، بعدما خضعت لحصار طويل انتهى بسيطرة مسلحة، وسط تقارير مروعة عن عمليات قتل واسعة واغتصاب واستهداف للمرافق الصحية، إلى جانب انهيار شبه كامل للخدمات الإنسانية، في وقت يواجه فيه مئات الآلاف من المدنيين مصيرًا غامضًا بين الحصار والنزوح القسري.
وأكد الزغبي أن هذا النوع من الانهيار لا يمثل مجرد تصاعد للعنف، بل يغير قواعد اللعبة بالكامل، إذ ينذر بتحول الصراع إلى عنف مؤسس لتقسيمات إثنية وجغرافية قد تولد أزمات إنسانية مستمرة يصعب احتواؤها.
وأوضح الزغبي أن هناك خمسة سيناريوهات محتملة لمستقبل هذا الوضع المأساوي في دارفور:
السيناريو الأول: الانزلاق إلى الإبادة
قال الزغبي إن “السيناريو الأقصى” يتمثل في استمرار الانحدار نحو إبادة أو تطهير عرقي، عبر موجات قتل منتظمة، وتطهير مناطق سكانية تابعة لمجموعات محددة، وإحراق مخيمات النزوح، وانهيار كامل لمؤسسات الدولة المحلية.
وأشار إلى أن هذا السيناريو تغذيه إيديولوجيا الإقصاء والقتل، مع غياب أي رادع خارجي فعال، وقدرة الفاعلين المسلحين على السيطرة على الموارد والطرق، وصعوبة وصول المساعدات الإنسانية.
السيناريو الثاني: التجميد والتقسيم
أضاف الزغبي أن هذا السيناريو يقوم على تجميد الصراع مع تفكك إداري طويل الأمد، من خلال سيطرة فصائل مسلحة على مناطق واسعة وظهور سلطات موازية، إلى جانب نزوح دائم وعنف دوري دون الوصول إلى مستوى الإبادة اليومية.
ويرى أن هذا الوضع قد ينتج عن استنزاف الأطراف المتحاربة، ووجود توازن قوى محلي أو إقليمي يمنع هجمات شاملة، مع تراجع الاهتمام الدولي تدريجيًا.
السيناريو الثالث: التفاوض الإنساني
وأوضح الزغبي أن هناك احتمالًا لظهور اتفاق محلي مؤقت يفتح ممرات إنسانية، نتيجة ضغوط دولية وإقليمية تفرض هدنة محدودة تشمل تبادل أسرى وتوثيق الانتهاكات وتحسينًا محدودًا في السلامة المدنية.
وقال إن هذا السيناريو يعتمد على دور فاعل للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، وعلى قدرة المنظمات الإنسانية على التفاوض واهتمام دولي مفاجئ بالملف السوداني.
السيناريو الرابع: التدخل والضغط الدولي
وأشار الزغبي إلى أن هذا المسار يقوم على تحرك دولي واسع يشمل إجراءات دبلوماسية واقتصادية وعقوبات وإحالات للمحكمة الجنائية الدولية، وربما تدابير عسكرية محدودة من قبل تحالف إقليمي.
وأكد أن هذا السيناريو قد يؤدي إلى تراجع قدرة الجماعات المسلحة على الإفلات من العقاب، خاصة في حال توثيق جرائم حرب وإبادة بشكل رسمي.
السيناريو الخامس: إعادة البناء المشروط بالسلام
واعتبر الزغبي أن الحل الطويل المدى يتمثل في هدنة شاملة تترافق مع عملية سياسية وطنية تفتح الطريق نحو إعادة بناء مؤسسات محلية وعودة تدريجية للنازحين، بدعم من برامج عدالة انتقالية ومصالحة مجتمعية.
وأشار إلى أن تحقيق هذا السيناريو ممكن عبر وساطة وإرادة مصرية، إذا توفرت بيئة إقليمية داعمة ومسار سياسي شامل.
وختم الزغبي تصريحاته مؤكدًا أن المشهد في دارفور قابل لمزيد من التصعيد والانتهاكات إذا استمر الفراغ الأمني وغياب الردع الفعال، لكنه شدد على أن هناك مسارات بديلة يمكن أن تفتح أفقًا للأمل، مثل تجميد الصراع، أو هدنة إنسانية، أو ضغوط دولية متسقة.
وقال إن أي تغيير جوهري في المسار الحالي يتطلب إما ضغطًا خارجيًا منسقًا، أو تحولًا داخليًا سريعًا في توازن القوى، أو حلولًا محلية تضمن حماية المدنيين وفتح ممرات الإغاثة.


















0 تعليق