- السيسي في بروكسل: "مصر تتحول من إدارة الأزمات إلى إدارة الشراكات والفرص الإنتاجية"
زيارة بروكسل ليست صفقة عابرة.. بل تحوّل في طريقة تفكير مصر نحو الاقتصاد والشراكة.. بهذه الروح يمكن قراءة زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي الأخيرة إلى بروكسل، والتي وصفتها الصحافة الأوروبية بأنها «نقطة تحول في علاقة القاهرة بالاتحاد الأوروبي»، فالزيارة، رغم طابعها الدبلوماسي، حملت في جوهرها تحولًا استراتيجيًا في فلسفة التعامل مع التمويل الدولي: من مجرد البحث عن الدعم إلى بناء شراكات إنتاجية طويلة الأمد.
خلال الزيارة، أعلن الاتحاد الأوروبي عن حزمة تمويل واستثمار بقيمة 7.4 مليار يورو، تتوزع بين قروض ميسّرة، واستثمارات مباشرة، ودعم فني وتنموي عبر “الآلية الأوروبية للتنمية المستدامة”.
لكن الأهم من الرقم نفسه هو طبيعة المشروعات التي ستُموّل:
• 3 مليارات يورو لمشروعات الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر.
• 2.2 مليار يورو للبنية التحتية والنقل والربط اللوجستي عبر محور الإسكندرية- الساحل الشمالي- المنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
• 1.5 مليار يورو لدعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة وتعزيز الإنتاج المحلي في قطاعات الزراعة والتصنيع الغذائي.
• والباقي للدعم الفني والإصلاحات الهيكلية التي تسهّل الاستثمار الأوروبي في مصر.
بهذا التوزيع، تتحول المنح والقروض إلى أدوات إنتاج، لا مجرد مسكنات مالية، وهو ما اعتبره بعض الخبراء في بروكسل “نموذجًا جديدًا في الشراكة مع دول الجنوب”، يقوم على تحويل التمويل إلى استثمار مشترك يخلق فرص عمل حقيقية.
خلال العقد الماضي، ارتبطت أغلب برامج التمويل الخارجي لمصر بمؤسسات مالية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وغالبًا ما جاءت هذه البرامج مصحوبة بإجراءات تقشفية حدّت من قدرة الدولة على الإنفاق الاجتماعي.
أما هذه المرة، فالمعادلة مختلفة: الاتحاد الأوروبي لا يطرح “برنامجًا اقتصاديًا” بالمعنى التقليدي، بل يشارك في تنفيذ مشروعات إنتاجية داخل السوق المصرية.
هذا يعني أن القاهرة بدأت تغادر مرحلة إدارة الأزمات لتدخل مرحلة جديدة: إدارة الموارد والشراكات بطريقة تراكم القيمة داخل الاقتصاد المحلي.
بمعنى آخر، لم تعد مصر في موقع “المتلقي”، بل في موقع “الشريك” الذي يفاوض على مصالحه ويربط التمويل بالإنتاج، والطاقة بالتنمية المستدامة، والبنية التحتية بالصناعة.
في الخلفية، تدرك أوروبا أن استقرار مصر الاقتصادي والسياسي هو ركيزة لأمن المتوسط، خصوصًا في ظل الاضطرابات الإقليمية الممتدة من الشرق الأوسط إلى الساحل الإفريقي.
ومع تزايد التوتر في أسواق الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا، أصبح الاتحاد الأوروبي يرى في مصر بوابة استراتيجية للطاقة النظيفة عبر مشروعات الهيدروجين الأخضر وربط الشبكات الكهربائية.
إضافة إلى ذلك، تراهن بروكسل على مصر كشريك رئيسي في الحد من الهجرة غير النظامية عبر خلق فرص عمل وتنمية محلية في مناطق الصعيد وسيناء والدلتا، ومن هنا، فإن الدعم الأوروبي لمصر ليس منحة سياسية، بل استثمار في الاستقرار المتوسطي والأمن الأوروبي نفسه.
من زاوية التحليل الاقتصادي، ما يميز هذه الزيارة هو أن القاهرة بدأت تنتقل من خطاب الحاجة إلى خطاب الفرصة، فبدلًا من التفاوض من موقع “الضغوط المالية”، أصبحت تتحدث من موقع القدرة الجغرافية والإنتاجية: فمصر تملك موقعًا يربط ثلاث قارات، وموانئها تطل على أهم الممرات البحرية في العالم، كما تملك قاعدة صناعية متنامية وشبكة طاقة واعدة يمكن توجيهها للأسواق الأوروبية.
هذه المقومات تجعل من الشراكة الأوروبية- المصرية تحالفًا استراتيجيًا متكافئًا لا علاقة مانح بمتلقٍ، وهنا يكمن التحول الحقيقي في طريقة التفكير، من “كيف نحصل على تمويل؟” إلى “كيف نحول التمويل إلى قدرة إنتاجية دائمة؟”.
النتائج الإيجابية للزيارة لا تقتصر على تدفقات الأموال، بل تمتد إلى تحسين ثقة الأسواق والمستثمرين الدوليين في الاقتصاد المصري، فمجرد توقيع الاتفاقيات الجديدة رفع من تقييم مصر الائتماني الجزئي لدى مؤسسات استشارية أوروبية، وبدأت بنوك كبرى مثل BNP Paribas وDeutsche Bank تتحدث عن “عودة تدريجية لزخم الاستثمار الأجنبي في شمال إفريقيا بقيادة مصر”.
كما أن المشروعات الجديدة وخصوصًا في الطاقة النظيفة والنقل من المتوقع أن تخلق ما بين 80 و 100 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة خلال ثلاث سنوات، بحسب تقديرات أولية للمفوضية الأوروبية.
ومن زاوية سياسية أعمق، تعكس الزيارة قدرة مصر على الحفاظ على توازنها الدولي بين الغرب وشركائها في الشرق، مثل الصين وروسيا.
فالقيادة المصرية تنوّع شراكاتها الاقتصادية دون الانحياز الكامل لأي محور، ما يمنحها هامش مناورة أكبر في التفاوض على شروط التمويل والتعاون.
وفي ضوء هذا التوازن، يمكن القول إن زيارة بروكسل تكمل مثلث السياسة الاقتصادية المصرية:
• القاهرة - بكين في التصنيع والبنية التحتية.
• القاهرة - موسكو في الطاقة والحبوب.
• القاهرة - بروكسل في التمويل والتكنولوجيا النظيفة.
هذا التنوع يمنح مصر مرونة في التعامل مع الصدمات العالمية، ويعزز فكرة الاستقلال الاقتصادي عبر تنويع مصادر الشراكة.
الرسالة الأهم من زيارة بروكسل هي أن مصر لم تعد تنظر إلى التنمية كمجرد سلسلة مشروعات حكومية، بل بوصفها شراكة متعددة الأطراف تجمع الدولة والقطاع الخاص والمستثمرين الأجانب.. إنها رؤية جديدة تتأسس على تحويل نقاط القوة الجغرافية والبشرية إلى قيمة اقتصادية حقيقية، لا مجرد شعارات.
وفي هذا السياق، يمكن أن تصبح حزمة التمويل الأوروبية نقطة انطلاق لإعادة تعريف النمو في مصر: من نمو مالي إلى نمو إنتاجي، ومن مشروعات استهلاكية إلى صناعات تصديرية، ومن دعم خارجي إلى شراكة مستقلة.
في النهاية فإن زيارة بروكسل لم تكن مجرد جولة سياسية أو اتفاق مالي جديد، بل علامة على نضج جديد في التفكير الاقتصادي المصري، لقد بدأت القاهرة ترى التمويل الدولي كوسيلة للتمكين لا الاعتماد، وكأداة لتحقيق السيادة الاقتصادية لا الخضوع لها.
رب ما نراه اليوم هو مجرد بداية، أما ما لا نراه بعد فهو التحول الأعمق الذي يمكن أن تصنعه مصر إذا نجحت في تحويل هذه الشراكة الأوروبية إلى قوة إنتاج حقيقية تعيد بناء الاقتصاد من الداخل.
اقرأ أيضاً
زيارة الرئيس لـــ«بروكسل».. أوروبا تعيد اكتشاف مصروزير الخارجية يلتقي نظيرته الرومانية في بروكسل ويؤكد أهمية الفرص الواعدة بالسوق المصرية
الرئاسة المصرية تنشر فيديو يوثق زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى بروكسل


















0 تعليق