د. محمد بشاري يكتب: الشيخ عمر إدريس.. نور التصوف ورايةُ السلم في أرض الحبشة - الفجر سبورت

صدي 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

رحل الشيخُ عمر إدريس، فبكت عليه أديس أبابا كما لم تبكِ عالِمًا من قبل، وغصَّت شوارعُها بجموعٍ من المسلمين والمسيحيين، يجتمعون على حبّ رجلٍ لم يفرّق بين أحدٍ منهم، بل كان لهم أبًا وملاذًا وضميرًا حيًّا يسكب الطمأنينة في النفوس، كما يسقي المطر أرضًا عطشى. لقد كان الشيخُ عمر إدريس في حياته مدرسةً في التوحيد الروحيّ، يَجمعُ بين صفاءِ القلبِ الصوفيّ ووعيِ العالِم المصلح، فلا عجب أن تلقّاه الناسُ في وداعه كما يُودَّع الأولياء، بالبكاء والسكينة والذكر.

لم يكن الشيخُ عمر إدريس مجرد مفتي إثيوبيا أو رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في البلاد، بل كان “ضميرًا وطنيًّا” يعبّر عن إسلامٍ عاشَ مع الناس لا فوقهم، وجعل من العلم طريقًا للرحمة لا للحكم، ومن الفقه ميزانًا للتسامح لا سيفًا للتفرقة. في مساجد العاصمة أديس أبابا، وبالأخص جامع الأنور الكبير وجامع النور، ألقى دروسه لعقودٍ طويلة، يُنيرُ العقول ويزكّي القلوب، يفسّر النصوص بروحٍ ناصعة، ويجعل من حديثه سفينةً تعبرُ بآلاف المريدين نحو شاطئ الطمأنينة. ما من خُطبةٍ ألقاها إلا وكانت مشبعةً بنَفَسِ المحبّين، ولا من مجلسٍ عقده إلا وعمّ فيه الدعاء قبل الجدل، والمودة قبل الاختلاف.

عرفتُ الشيخَ عن قُربٍ في لحظةٍ من لحظات التاريخ، عندما دُعي إلى أبوظبي، عاصمة السلام، ليكون رُكنًا في مصالحةٍ كبرى جمعت كل الأطياف الإسلامية المكوّنة للمشهد الإثيوبي. كان المشهد أقرب إلى لوحةٍ قرآنيةٍ تُعيدُ صياغة الأخوة على بصيرةٍ وصفاء. جلَسَ الشيخُ عمر إدريس ممثلًا للتيار الصوفي، إلى جواره الشيخ الدكتور أحمد جيلان ممثل الاتجاه السلفي، وحضر تيار الشباب، وجلس الكلُّ على مائدة واحدةٍ تحت رعايةٍ حكيمة من دولة الإمارات التي أرادت أن تطفئ نار التحزّب والصراع المذهبي. هناك، كان الشيخ عمر هو لسان التوفيق ووجه الحكمة، يحدّث الحاضرين بصوتٍ مفعمٍ بالسكينة، كأنّ الملائكة تحفُّ مجلسه. وبجهدٍ صادق من الدكتور علي راشد النعيمي، وبحكمة القيادة الإماراتية، تمّت المصالحة ووقّعت وثيقةُ الوحدة في أبوظبي، ليعود الوفدُ إلى إثيوبيا ومعه عهدُ السلم والوئام.

كان الشيخُ عمر إدريس من أولئك الذين يمشون على الأرض بخشوع العارفين، لا تُغريهم المناصب ولا تستهويهم الأضواء. زاهدٌ في ذاته، كريمٌ في وقته، متواضعٌ حتى ليخجل من ثنائك عليه. يجالس الناس بوجهٍ باسمٍ، يُصغي أكثر مما يتكلم، ويذكّرهم بالله أكثر مما يذكّرهم بنفسه. عاش للتوحيد لا للتصنيف، وللدعوة لا للمجد الشخصي. لذلك، حين وافته المنيّة في أكتوبر 2025، خرجت أديس أبابا عن بكرة أبيها، تودّع من جمع اللهُ له القبول في الأرض قبل السماء.

كانت جنازته درسًا في الإنسانية قبل أن تكون مشهدًا من الوداع. حضرها آلاف المسلمين، وتقدّمها البطريرك الأرثوذكسي أبونا متياس، باكيًا متأثرًا، في مشهدٍ قلّ أن يجتمع فيه الدينان على رجلٍ واحد. ذرفت العيون دموعها، وترددت على الألسنة كلماتُ الرحمة والدعاء، إذ لم يكن الشيخُ رمزًا لدينٍ دون آخر، بل كان رمزًا لإنسانيةٍ أوسع وأجمل، ووجهًا للسلام الذي يحتضن الجميع.

تلك الجنازة كانت ترجمةً صادقةً لمسيرته كلّها؛ رجلٌ نذر حياته للإصلاح، فوهبه الله حبَّ الناس. لم يكن في قلبه ضيقٌ على مخالفٍ ولا تبرّمٌ من جاهل، بل كان يرى أن الخلافَ امتحانُ القلوب، وأن السلامَ ثمرةُ الإخلاص. وكان كثيرًا ما يقول لتلامذته: “من أراد أن يُصلح، فليغلب في نفسه الحبَّ على الغضب، والرحمةَ على الفكرة.” لذلك، حين غادر الدنيا، وجد في قلوب الناس مكانًا لا يزول، لأنّه لم يُربِّهم على الولاء له، بل على الولاء لله.

لقد ترك الشيخُ إرثًا يفيض بالسكينة، ومسيرةً تشهد أن التصوف ليس انسحابًا من الواقع، بل حضورًا فيه بروحٍ أنقى. علّم الناس أن الأمنَ المجتمعي يبدأ من نقاء النية، وأنّ الإصلاح لا يحتاج إلى سيفٍ ولا سياسة، بل إلى قلبٍ صادقٍ يعرف طريق السماء. وبهذه الروح، أسّس مع إخوانه في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية أرضيّةً قانونيةً جامعةً للمسلمين في بلاده، وانتزع الاعتراف الرسمي بهم، فجعل من الوحدة واقعًا بعد أن كانت حلمًا بعيدًا.

رحم الله الشيخ عمر إدريس، فقد كان واحدًا من أولئك الذين يصنعون التاريخ بصمت، ويكتبون مجد الأمة من غير ضجيج. عاش نقيًّا ومات نقيًّا، فكان مثالًا للعالِم الربّاني الذي يفيض حبًّا على الناس كما يفيض النور من مصباحٍ لا ينطفئ.

اللهم اجعل روحه في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، وأسبغ عليه من رحمتك ما يليق بصفاء قلبه، وأكرمه بنورٍ لا يخبو، وصحبةٍ في الجنّة من الذين أحبَّهم فيك. لقد كان عبدًا صالحًا، عابدًا زاهدًا، ومحبًّا للسلام كأنّ قلبه وطنٌ للسكينة، فاجعل قبره روضةً من رياض النعيم، وارفَع ذكره في عليّين، إنك وليّ ذلك والقادر عليه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق