ثمة أوطان لا تُفهم بخريطة، ولا تُقرأ بالبوصلة أو بمقاييس المسافة والاتجاه. هناك أراضٍ تتحدث بلغتها الخاصة، ترسمها الذاكرة قبل الجغرافيا، وتحرسها الأرواح قبل الجيوش. وغزة واحدة من تلك الأمكنة التي عصت على الفهم منذ فجر التاريخ. مدينة تفتح عينيها كل صباح على رماد حرب، وتنام على وعد سلام مؤجل، ومع ذلك تبقى واقفة في وجه العواصف كجدار من الإرادة لا تهزه الأعاصير.
من يقترب من غزة دون أن يقرأ تضاريسها الروحية والسياسية، يُخدع ببساطة الأرض وضيقها، لكنه يجهل أن كل شبر فيها محفور بذاكرة مقاومة، وأن ما يبدو حدودًا ضيقة هو في الحقيقة اتساع في الوعي الجمعي لشعب لم يستسلم. لذلك حين تحاول واشنطن رسم خطوط جديدة على خريطة القطاع، فإنها لا تُخطئ في الحسابات الميدانية فحسب، بل تُخطئ في قراءة روح المكان.
منذ أن أعلنت الولايات المتحدة نيتها الدخول على خط إعادة إعمار غزة، بدا المشهد وكأنّه فصل جديد من محاولات الفهم الخاطئ لجغرافية الصراع. فالعقل الأميركي، الذي ينظر إلى العالم كلوحة مشاريع واستثمارات، لا يدرك أن غزة ليست حيًّا مدمّرًا يمكن ترميمه بمساعدات مالية، بل هي ساحة تتقاطع فيها السياسة بالرمز، والمقاومة بالكرامة، والدم بالذاكرة.
في كل مرة تحاول واشنطن أن تُعيد صياغة القطاع وفق رؤيتها، تُخطئ في تحديد البوصلة. فهي تريد إعمار ما دمرته الحرب، دون أن تسأل نفسها عن جدوى البناء فوق ركام السياسة. تريد إطلاق مشاريع في مناطق تخضع للسيطرة الإسرائيلية، دون أن تعترف أن السيادة لا تُمنح بقرارات هندسية، وأن الأرض التي تُزرع فيها الخنادق لا يمكن أن تُبنى عليها العمارات.
وهكذا تبدو الخطط الأميركية كما لو كانت خريطة معلقة في الهواء، بلا جذور ولا سياق، تتحدث عن "مرحلة ما بعد الحرب" وكأن الحرب كانت حدثًا عابرًا لا نتيجة حتمية لسياسات الحصار والاحتلال. إن مأزق واشنطن ليس في التمويل أو التنفيذ، بل في الفهم ذاته: كيف يمكن لمن شارك في تدمير البنية أن يكون راعيًا لإعمارها؟
وفي مقابل هذا الارتباك الأميركي، تتحرك القاهرة بخطى مدروسة تعي طبيعة الأرض وذاكرة المكان. فمصر، التي تعرف جيدًا أن غزة ليست مجرد جارٍ جغرافي، بل امتداد طبيعي لأمنها القومي، تدفع اليوم بكل قوتها نحو تسريع المرحلة الثانية من إعادة الإعمار، لإحياء ما تهدم لا كمنّةٍ أو وساطة، بل كمسؤولية تاريخية تجاه القضية الفلسطينية.
القاهرة تدرك أن إعمار القطاع لا يُقاس بكمية الأسمنت والحديد، بل بمدى القدرة على إعادة الحياة إلى الإنسان الفلسطيني نفسه. ولهذا لا تكتفي مصر بالجهد العمراني، بل تسعى في موازاة ذلك إلى ترميم البيت الفلسطيني من الداخل، عبر مبادرات لإعادة بناء الثقة بين الفصائل، وتوحيد المؤسسات الفلسطينية، وخلق إدارة مدنية وسياسية قادرة على ضبط الإيقاع في الداخل بعيدًا عن الفصائلية الضيقة.
فالواقع الفلسطيني المنقسم هو الجدار الذي يتكئ عليه الاحتلال ليستمر، وهو الثغرة التي تنفذ منها المشاريع الخارجية لتفكيك القرار الوطني. لذلك يأتي الجهد المصري ليعيد ترتيب الأوراق من الداخل، لأن من يحكم الجغرافيا هو من يملك قرارها الوطني، لا من يُملى عليه من الخارج.
في المقابل، يعيش رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وضعًا داخليًا بالغ التعقيد.فالرجل الذي بنى مجده السياسي على خطاب اليمين القومي يجد نفسه اليوم محاصرًا بين مطرقة حلفائه المتشددين الذين يدفعونه إلى مزيد من التصعيد، وسندان الإدارة الأميركية التي تراه عقبة أمام أي أفق سياسي جديد.وبين هذا وذاك، تتآكل شرعيته السياسية تحت ضغط الداخل الإسرائيلي المنقسم والمشهد الإقليمي المتغير.
نتنياهو، الذي طالما روّج لنفسه كحارس أمن إسرائيل، بات أسير حسابات انتخابية ضيقة، يراهن فيها على دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تطالبه بالضم الكامل للضفة، في الوقت الذي يحاول فيه تفادي صدام علني مع واشنطن التي تمسك بخيوط الدعم العسكري والسياسي. وهكذا يجد نفسه في مأزق مزدوج: لا يستطيع إرضاء الداخل دون خسارة الخارج، ولا يمكنه استرضاء واشنطن دون أن يخسر قاعدته الصلبة في اليمين.
أما الولايات المتحدة، فقد وجدت نفسها أمام مفارقة أخلاقية وسياسية. فهي من جهة تُعلن رغبتها في "إعمار غزة" ضمن رؤية إنسانية، ومن جهة أخرى تُصر على البقاء شريكًا لإسرائيل في سياساتها الميدانية. وبذلك تصبح واشنطن، كما يقول المراقبون، طرفًا في المشكلة لا وسيطًا للحل.
إن إخفاق واشنطن في قراءة الجغرافيا السياسية لغزة هو إخفاق في فهم المنطقة بأكملها. فهذه الأرض ليست مجرد مساحة متنازع عليها، بل عقدة في الوعي العربي والوجدان الإسلامي، لا يمكن تجاوزها بسياسات المساعدات أو مراكز التنسيق العسكري. كل محاولة لتجاوز البعد السياسي للكارثة الإنسانية في غزة، هي إعادة إنتاج لها بأشكال جديدة.
من هنا، يبرز الدور المصري كخيط التوازن الوحيد في معادلة مضطربة. فالقاهرة، التي حملت عبر تاريخها عبء القضية الفلسطينية، تعرف أن استقرار غزة لا يتحقق عبر خطوط التمويل، بل عبر خطوط السيادة والمصالحة الوطنية. لذلك تمارس مصر اليوم دبلوماسيتها بهدوء لكنها بعمق، تحاور الجميع، وتعيد ترتيب المشهد من القاعدة لا من القمة، واضعة نصب عينيها هدفًا واحدًا: أن يبقى القرار الفلسطيني بيد الفلسطينيين، وأن تبقى غزة لأبنائها لا ساحة لتجارب الآخرين.
قد تتغير الإدارات في واشنطن، وقد تتبدل التحالفات في تل أبيب، لكن الجغرافيا تبقى صادقة لا تكذب. فغزة التي صمدت في وجه الحصار والحروب، لن تُهزم في وجه مشاريع الإعمار المعلبة، لأن من يملك الأرض يملك الحق في إعادة بنائها وفق إرادته، لا وفق إملاءات الخارج.
إن الطريق إلى إعمار غزة يمر من القاهرة، ومن إرادة الفلسطينيين في الداخل، لا من خرائط العواصم البعيدة. فالإعمار الحقيقي ليس في بناء الجدران بل في ترميم الثقة، وليس في نقل الركام بل في بناء الوعي والسيادة.
وستظل مصر - كما كانت - الحارس التاريخي لتوازن الشرق، تعرف أين تبدأ المعركة وأين ينتهي السلام، وتدرك أن غزة ليست جغرافيا صغيرة، بل قلب كبير في جسد أمة تبحث عن نهضتها من بين الرماد.
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
اقرأ أيضاً
استشهاد فلسطينيين اثنين بقصف للاحتلال وسط قطاع غزةفتح: ندعم وجود قوة دولية في غزة يكون دورها رقابيا وليس إجرائيا
حشد: الاحتلال يواصل الإبادة البطيئة والتجويع لسكان غزة واستهداف الأونروا


















0 تعليق