ما المختلف هذه المرة في نمط العلاقات المصرية الأوروبية؟
بهذا السؤال أود أن أقرأ زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي الأخيرة إلى بروكسل، لأن ما جرى هناك ليس مجرد اتفاق على تمويل أو منحة أوروبية جديدة، بل إعادة تعريف لموقع مصر في خريطة الاقتصاد الدولي، إنها ليست زيارة من أجل المال، بل من أجل تغيير طريقة تفكيرنا في الشراكة والتنمية والسيادة الاقتصادية.
على مدى سنوات، كانت علاقات مصر بالتمويل الدولي تُقرأ في إطار «المساعدات» أو «الإنقاذ الاقتصادي»، وكأننا في علاقة طرف قوي بطرف ضعيف، لكن في بروكسل، بدا المشهد مختلفًا: القاهرة لم تذهب لتطلب دعمًا، بل لتعرض شراكة متكاملة تربط الطاقة بالتنمية، والموقع الجغرافي بالإنتاج، والتمويل بالسيادة.
الاتحاد الأوروبي أعلن عن حزمة استثمارات وتمويل تتجاوز 7.4 مليارات يورو، تتركز في الطاقة النظيفة، والبنية التحتية، والصناعات الصغيرة، والربط اللوجستي.
لكن القيمة الحقيقية ليست في المبلغ، بل في الفلسفة التي تقف وراءه: أن يتحول التمويل إلى استثمار مشترك، والاعتماد إلى تكامل، والدعم إلى إنتاج.
في لحظة جيوسياسية مضطربة، تدرك أوروبا أن استقرار مصر هو شرط لاستقرار المتوسط بأكمله.
ومع تراجع الثقة في بعض أسواق الجنوب، ظهرت القاهرة كشريك يمكن الرهان عليه، يمتلك الاستقرار السياسي، والقدرة التنفيذية، والموقع الاستراتيجي الذي يربط أوروبا بإفريقيا وآسيا.
مصر بالنسبة لأوروبا ليست «جارًا من الجنوب»، بل جسرًا إلى مستقبل الطاقة والهيدروجين الأخضر والأسواق الإفريقية، وفي المقابل، ترى القاهرة أن أوروبا ليست مجرد مانح، بل سوق تكنولوجي واستثماري يمكن من خلاله نقل المعرفة وبناء قاعدة إنتاجية محلية.
لكن الفكرة الأهم، والتي يجب أن نتوقف عندها هي أن هذه الحزمة التمويلية ستكون اختبارًا لنمط التنمية في مصر:
هل سنحولها إلى مشروعات إنتاجية حقيقية تخلق فرص عمل وتراكم قيمة مضافة داخل الاقتصاد؟
أم سنكرر تجارب سابقة ذهبت فيها الأموال إلى استهلاك قصير المدى؟
الإجابة ستحدد إن كانت هذه الزيارة بداية مرحلة جديدة من الاستقلال الاقتصادي، أم مجرد محطة مؤقتة في مسار التمويل الخارجي، فالتمويل في ذاته ليس إنجازًا، الإنجاز الحقيقي هو ما يُبنى به.
ما يلفت النظر ايضاً أن القاهرة باتت تدير سياستها الاقتصادية بمنطق «التوازن الذكي»، فهي تبني شراكات مع أوروبا في التكنولوجيا والطاقة، ومع الصين في البنية التحتية، ومع روسيا في الغذاء والوقود، هذا التنوع في الشركاء يمنحها هامشًا واسعًا من الحركة، ويعزز مبدأ الاستقلال في القرار الاقتصادي الذي لطالما نادت به المدارس التنموية في الجنوب العالمي.
وحين ننظر إلى زيارة بروكسل من زاوية مختلفة، ندرك أنها ليست صفقة تمويلية بل خطوة فكرية، فهي تعني أن مصر بدأت تتحدث بلغة الاقتصاد المنتج لا المساعدات، وأنها تعيد بناء ثقتها بنفسها كقوة إقليمية قادرة على صياغة مصالحها بوعي واستقلال.
ربما ما لا نراه فورًا هو أن مثل هذه الزيارات تفتح الباب أمام تحول في العقل الاقتصادي نفسه:
من الاعتماد على الخارج إلى الشراكة معه، ومن الاستجابة للضغوط إلى صياغة المبادرات، ومن إدارة الأزمات إلى بناء الرؤية.
ويمكن القول بأن القوة الحقيقية لا تُقاس بما نملكه من موارد، بل بقدرتنا على تحويل الفرص إلى سياسات، والسياسات إلى تنمية، والتنمية إلى كرامة اقتصادية.
زيارة بروكسل، في جوهرها، كانت لحظة صدق بين مصر والعالم، لحظة تقول فيها القاهرة: لسنا نطلب دعمًا، بل نعرض شراكة، لسنا نبحث عن قروض، بل عن مستقبل نصنعه بأيدينا، ومع من يفهم أن في استقرار مصر مصلحة مشتركة.
اقرأ أيضاً
الرئيس السيسى لشعوب أوروبا: يجمعنا كثير من الروابط التاريخية ونطمح لمستقبل قائم على العدل والسلامنص كلمة الرئيس السيسى بعشاء العمل مع قادة أوروبا تكريمًا له
الرئيس السيسي: مصر يمكنها أن تكون الحليف الصناعي والتكنولوجي الأهم لأوروبا


















0 تعليق