نصوص ترصد التحولات الاجتماعية في الريف المصري بلغة رمزية ساخرة، تجمع بين النقد والحنين.
---القطيع التطوعي
في زمنٍ صار فيه الجهل زينةً، والرياءُ وسيلةَ عيش، والوقاحةُ جسرًا إلى المجد، تحوّلت الانتخابات في بلادنا إلى فصلٍ جديدٍ من الكوميديا السوداء. فكل موسمٍ انتخابيّ يعيد القرية إلى طفولتها الساذجة، تُزيَّن القباحة وتُغسل الوجوه بالطين لتبدو أنقى. كأنّ الناس هناك لا تختار بوعي، بل بحنينٍ بدائيٍّ يشبه الطواف في الموالد، يهرولون خلف من يملك الصوت الأعلى لا الفكرة الأصدق.
أشتاق أحيانًا إلى طفولتي في تلك القرية، إلى زمنٍ كانت البساطة فيه نقيةً، لم تُلوِّثها الزغاريد الانتخابية ولا رائحة الكبسة الجماعية. يومها كان الناس يفهمون الشرف بالعمل، لا باليافطات التي تعد بما لا تملك.
في صباحٍ باكر على أطراف قريتنا، عند ترعة الجبادة العليا، استيقظنا على زفّةٍ صاخبةٍ لمرشّحٍ جديد.النساء يرششن الملح والماء على جانبي الطريق اتقاءً للحسد، والرجال يتدافعون بين الطبول والهتافات، كأنّ الموكب عرسٌ جماعيّ لا انتخابات. تقدّم ابن العمدة يوزّع الابتسامات والوعود، ثمّ عُيّن لاحقًا خولي زراعة، في مشهدٍ بدا طبيعيًّا كالميراث.
وعلى الضفة الأخرى، وقف شيخ القرية تحت شطّ الجميز وأشجار السنط، وخلفه طيور الأوَزّ والبطّ تصيح متناسقةً مع الهتافات، كأنها تشارك في حملة التأييد الوطنية الكبرى.
وعلى عتبات بيوت الطين، تجمّعت النسوة بأثوابٍ ملونةٍ وعيونٍ لامعةٍ بالفضول. بعضهنّ يهمسن في السخرية، وأخريات يرددن الزغاريد بين لحظةٍ وأخرى. كنّ يختلسن النظر إلى الموكب، يتبادلن النكات عن المرشّح وزوجته، وعن "العزومة الكبرى" التي وُعدن بها مساءً. إحداهنّ صاحت:
ـ يا ولاد، ما تنسوش الزفة دي.. .شبه زفة العجول يوم العيد!
فضحكنا نحن الصغار، وخرجنا خلف الطبل والزمر نركض في الطريق الموحل كأننا نزفّ عجول عيد الأضحى. كانت الضحكة بريئة، لكنّ المشهد كله كوميديا من طينٍ وهمزاتٍ وزغاريدٍ ونفاقٍ لامعٍ كالماء العكر في الترعة.
في تلك الزفّة الأولى تعلمنا أنّ السياسة ليست سوى سيركٍ متجوّل، مهرجانٌ من الأصوات العالية والوجوه المتكرّرة، وأنّ القلوب في بلاد الطين تميل لمن يطعمها الوهم قبل الخبز. تغيّر الزمن، لكنّ المشهد لم يتغيّر، فقط تبدّلت الأدوات. صار الهاتف بديلاً عن الطبلة، واللافتة المضيئة بديلاً عن الزغرودة، والجهل نفسه يطلّ هذه المرة في ثوبٍ عصريٍّ أنيق.
المرشّح القادم إلى القرية كان أكثر وقاحة من سابقيه، يوزّع الابتسامات كما تُوزَّع الأكياس الفارغة في الأسواق. وخلفه يسير القطيع التطوعي من أهل القرية: شيوخٌ وشبابٌ ونساءٌ يمدحونه بلا سببٍ سوى أنهم اعتادوا التصفيق لمن يملك الميكروفون والوليمة. أحدهم قال وهو يصفّق بحرارة:
ـ الراجل دا ابن أصل.. .هيرد الجميل للبلد.
فسأله آخر ساخرًا:
ـ جميل إيه؟ دا لسه ما عملش حاجة!
فأجاب الأول بجدٍّ غريب:
ـ كفاية إننا بنشوفه مبتسم!
كانت تلك الابتسامة كأنها عطيةٌ مقدّسة، تُشعل الحماس في النفوس وتمنح الجاهلين شعورًا زائفًا بالمشاركة. رأيتُ العمدة العجوز يوزّع كلماته بحذرٍ أشبه بخيوط العنكبوت، يهمس بأنّ "الناس لازم تتجمّع.. .شكل القرية قدّام المحافظة مهم!"، وكأنّ الحضور طقسٌ تعبّديّ لا رأي فيه ولا نقاش.
حتى إمام المسجد، الذي كان يحذّرنا دومًا من النفاق، وقف يومها في الصف الأول يهتف باسم المرشّح، ثم صعد المنبر في الجمعة التالية ليخطب عن "الإخلاص في العمل العام"! ضحكتُ في سرّي، وأنا أرى كيف يذوب الإيمان حين يقترب من السياسة، وكيف يتحوّل الحقّ إلى ظلٍّ خائفٍ من الضوء.
وفي منتصف الحملة، ظهرت على جدران الطين رموزٌ غريبة: بومةٌ مرسومة بخطٍّ مرتجف، وعينٌ تحدّق من فوق اللافتات. قيل إنّها شعار "مرشّحنا"، الذي اختار البومة رمزًا لحكمته وسهره على مصلحة الناس! ضحكنا في الخفاء، فنحن نعرف أن البومة في أمثالنا نذير شؤم، لكنها في خطابه الانتخابي تحوّلت إلى طائرٍ وطنيٍّ مستنيرٍ يرى في العتمة ما لا يراه الناس. راحت الجدّات يبصقن ثلاثًا كلما مررن أمام الجدار، بينما الشبان يلتقطون الصور بجوار البومة كأنها تميمة نصر. كان المشهد يجمع بين الأسطورة والسذاجة في لوحةٍ سريالية من طينٍ وضحكٍ مكتوم.
وعندما انتهت الزفّة، بقيت آثار الملح والماء على الطريق كأنها تعويذةٌ لطرد الحقيقة. استعادت القرية هدوءها، لكن العيون بقيت مشتعلة بالانتظار: من سيُعيَّن بعد الانتخابات؟ ومن سيُمنح مقعدًا أو قطعة أرض؟ أما شيخ القرية فظلّ واقفًا عند شطّ الجميز، يحدّق في الماء العكر ويقول بصوتٍ متعب:
ـ نفس الوجوه يا ولدي.. .تتبدّل الأسماء فقط.
أدركتُ يومها أن بلاد الطين لا تتغيّر بالخطب ولا باليافطات، بل حين يتعلّم أبناؤها أن يزرعوا الوعي بدل الشعارات. لكنّ الوعي في قريتنا يشبه البذور التي تُلقى في أرضٍ مشبعةٍ بالملح.. .لا تنبت، بل تموت واقفة.
حين غابت الشمس، مررتُ من طريق الترعة. رأيتُ الأطفال يلعبون في الطين نفسه الذي داسه الموكب صباحًا. ضحكوا وهم يقلّدون المرشّح بصوتٍ ساخر:
ـ وعد شرف يا جماعة!
ضحكتُ معهم، ثم سكتُّ فجأة. ربما أولئك الصغار وحدهم، دون قصد، بدأوا أول تمرينٍ على الحرية.
وفي مساء ذلك اليوم، مررتُ بجدارٍ ما زالت عليه بومة المرشّح تحدّق في العابرين بعينٍ ثابتة. بدت لي كرمزٍ أعمق من مجرد شعارٍ انتخابي، بومةٌ عمياء تظن نفسها حكيمة، تمامًا كما يظن الناس أنهم أحرارٌ وهم في صفوف الطاعة. أدركتُ حينها أن رمزية البومة لم تكن صدفة، بل مرآةٌ لوعينا المقلوب: نحتفي بالظلام ظنًّا أنه بصيرة، ونصفّق للعتمة لأن الضوء بات يوجع العيون التي لم تتعلّم النظر.. .!!
-- ما بعد المشهد
وما أوجعني وأمرضني وأقعدني هذه الأيام عن الكتابة، هو ما رأيته من بعض من يدّعون الفكر والثقافة، أولئك الذين غرقوا في نفاقٍ أعمق من طين القرية، وراحوا يمدحون مرشّحًا قد يغيب عن المشهد أصلًا. ما أزعجني ليس المرشّح ذاته، بل تلك الوجوه التي كانت بالأمس تسألني: "لماذا يخوض الانتخابات؟" ثم انقلبت اليوم تصفق له كأنها وجدت نبيًّا في الميدان. جنّ جنوني، ومرضتُ من هول ما أراه من تبدّل الوجوه والمواقف، كأنّ الرياء صار عقيدة والصدق ترفًا مهجورًا.
أيّ زمنٍ هذا؟
زمنُ الطقس الرديء، مثل مناخٍ فاسدٍ تتعاقب عليه العواصف والغبار، فلا يبقى فيه سوى رائحة العفن والبلل. زمنٌ يتبدّل فيه المطر إلى وحل، والرياح إلى تصفيقٍ أجوف.
إنه زمن بلاد الطين.. .حين يصبح الكذب مهارةً، والنفاقُ ثقافةً، والصمتُ علاجًا مؤقتًا من الجنون.. .!!
--محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية.. !! [email protected]
0 تعليق